خرجت لأشتري نبيذا لوجبة الغداء، كان البرد جافا، وكانت الشمس طفيفة تمنح الوجه دفئا على غير المألوف في تلك المدينة وذلك الحي.
في طريق عودتي، خطر لي والزجاجة في يدي أنني أحب أن أعيش على هذا النحو، أن يكون لي مكان هنا وأن ألتقي بأصدقائي كثيرا، وأتسوق، وأشتري قليلا من النبيذ بسعر مناسب من أجل الغداء.
بعد شهر عدت إلى ستوكهولم، بعد أن مكثت قبلها ستة أشهر في الأوروغواي، حين استيقظت في اليوم التالي تملكني شعور بالغربة فقد وجدت نفسي في المكان الذي لا يناسبني، نعم طبيعة الشمال الباهرة ربيعا، وبهجة الناس، والشغف بالشمس وبالضوء الذي لا تحس به سوى الشعوب التي تعيش شتاءات طويلة مظلمة، كل شيء كان بهيجا من حولي، لكن شيئا ما لم يكن على ما يرام.
تساءلت: ماذا أفعل هنا؟
وعندها خطرت ببالي ثانية تلك الظهيرة التي ذهبت فيها كي أشتري نبيذا لوجبة الغداء وقلت لنفسي: أرغب في أن أعيش هناك. ليست القضية أن مكانا أفضل من مكان آخر، لا فرق، فأنت تجرجر نفسك في كل مكان حاملا دوما البؤس ذاته.
ما كنت أريده، هو أن أعود إلى الروائح المألوفة، بل الأماكن التي تتعرف إليها الذاكرة دون أن يكون عليك التفكير بها، إلى الأحاديث التي لا تحتاج مرجعياتها إلى شرح.
لقد سافرت إلى بلاد أخرى، إلى قارات أخرى، إلى لغات أخرى، لأكتشف بعد وقت بأنني بقيت أنا، دون شفاء!
كنت أعرف أنه ما من مخرج، لأنني في ذلك اليوم وأنا في ستوكهولم كنت بلغت من العمر ما لا يمكن معه أن أؤمن بإمكانية الهرب، لكنني عثرت حينها على وهم قديم، وهم العودة ليس من أجل البحث عن شيء جديد، بل من أجل البحث عن مرسى معلوم، لأنه ليس ثمة فرق بين الرحيل إلى ما هو جديد وبين العودة، لأنك في نهاية الرحلة تكون دوما أنت ذاتك، تنتظر بوجهك ذاته، بحملك ذاته، بأسئلتك ذاتها، الشيء الوحيد الذي يتغير هو أنه بعد كل رحلة تكون أكبر سنا وأقل اهتماما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا النص لكارلوس ليسكانو من كتابه “الكاتب والآخر” لقد وقفت على هذا النص بعد يومين من كتابة تدوينة “ما أفكر فيه اليوم” إنه نفس سياق مطلع التدوينة التي تحدثت فيها عن العودة للأرشيف، وعن ذات الشعور ، وهذا الكتاب بالمناسبة هو من كتب الأرشيف الخاص، وهذه المرة هي الثالثة التي أعود فيها لقراءته، إنه من الكتب التي تزدهر كلما كبرنا في السن.