القائمة

والتك*

* بقلم: فاطمة الفقيه

جاءت إلى منزلي صبية صغيرة، ضعيفة البنية لا يبدو أنها قد تخطت عتبة البلوغ، وعندما سألتها عن عمرها أكدت لي صادقة أنها في الثانية والعشرين، فعرفت أنه الفقر قبيح الذكر وقبيح الأثر هو الذي منع جسدها من استدارت الصبا.
سمارها بسمار البن، بابتسامة لا يمكن أن يمر بريقها على الرائي مرور الكرام، رقيقة الصوت تتحدث كالعصفور، تهمس عند الحديث فتخرج أنفاسها وكأنها طفلة توقفت للتو عن اللعب، كانت شديدة النحافة، لدرجة أني لم أجد ما يلائم حجمها في فساتين البالغات.

أمضت لدي هذه الصبية ما يقرب السبعة أشهر أحببتها فيها كثيرًا، وحلمت لها أحلامًا كبيرة، في أفكاري خططت أن تكبر هذه الصغيرة في بيتي إن أرادت، وسأتيح لها من الحرية ما يمكنها أن تلتقي بشريك حياة مناسب، وسأطلب من زوجي أن يلتقي هذا المرشح ويختبر أمانته وصدقه خوفًا عليها.
في الصباح تحييني بابتسامتها المعهودة، وقد انتهت من تنظيف المنزل والعناية بالطيور، والزرع الذي يملأ المنزل، ومن فترة لأخرى تحكي لي بلغتها البسيطة عن أهلها، وطعامهم وجمال بلادها، من دون مقدمات تلقي بذراعيها حولي وكأنها طفلة ترغب بالأمان، وكنت أحتضنها وأبتسم. 

وضعت لها جدولًا بحيث تذهب كل جمعة لعاملة منزلية تعمل في بيت أقاربي، حيث تعارفا وجمعت بينهما صداقة غربة وأيام صعبة، كنت أراها وقد ارتدت أجمل ما لديها، وقد تصنع لهما طعامًا لتأخذه معها، وأحيانًا تخبرني برغبتها في الذهاب مع صديقتها للبحر، ثم عندما تعود من زيارتها تخبرني كيف استمتعت مع صديقتها بجمال البحر والمكان.
أذكر في يومٍ طلبتُ منها أن تفعل شيئًا بسيطًا جدًا، لكن فوجئت بها وقد فعلت عكس ما أردت تمامًا، فحدثتها بنبرة حادة، فما كان منها سوى أن تسمرت مكانها وبكت بصمت، لم يسبق لي أن تعاملت مع كائن بهذه الرقة، اعتذرت لها بشدة، أخبرتها أني مخطئة وأني آسفة، واحتضنتها حتى توقفت عن البكاء، لكني بقيت طيلة اليوم وشعور مزعج يجثم على صدري، حتى عادت لمزاجها الهادئ البديع.
ثم جاءت الأيام الأخيرة لوجودها عندي، شعرت بتغيير في سلوكها لم أستطع فهمه، أصبحت قليلة العناية بنفسها، تستيقظ متأخرة، لا تأكل ولا تبتسم، كنت أستيقظ ليلًا لأسمع حوارات صاخبة في غرفتها، فأعرف أنها تجلس لساعات طويلة في صراعات مع أهلها عبر مكالمات الفيديو، ثم تستيقظ اليوم التالي واجمة، وأحيانًا وقد انتفخت عيناها من البكاء!

استمر الأمر لعدة أسابيع، حتى جاءت تلك الليلة المشؤومة، طلبت مني فيها أن أذهب بها لمنزل صديقتها، لم أستجب لطلبها وأخبرتها أن الساعة العاشرة ليلًا ولا أستطيع أن أذهب لبيوت الناس في هذا الوقت، التزمت الصمت وذهبت لغرفتها، في صباح اليوم التالي لم تخرج من غرفتها باكرًا كعادتها، أيقظتها وكأن شيئًا لم يكن، بدأت بالعمل ثم في منتصف النهار جاءتني من غرفتها شبه منهارة ترجوني أن أذهب بها لصديقتها وتحذرني بلغة غير مفهومة من أشياء لم أعرفها، كانت خائفة ومذعورة، ذهبت بها لصديقتها، التي أخبرتني بالقصة وهي أنها تتلقى مكالمات تهديد من أشخاصًا يكرهونها في بلدها يهددونها بأنهم سيبعثون لها بالجن لإيذائي وإيذائها. حاولت إقناعها بأنه لا يوجد شيء مثل هذا، وأني لست خائفة وسأحميها، لكن الأفكار كانت قد تمكنت منها.
تركتها عند صديقتها حتى تهدأ ثم تعود للمنزل، لكن الحالة أصبحت أكثر سوءا، فصارت تتحدث بحدة وتنفعل وكأنها ترى أشخاصًا، فعرفت حينها أنها تعاني من حالة فصام حاد، وهنا جاء خطأي الجسيم، فبدلًا من أن أذهب بها للمستشفى أخبرت الشركة بما حل بها، فطلبوا مني إعادتها.
أعدتها للشركة، كان التعامل شديد البرود، قيل لي لقد أصبحت مجنونة، وأنها ليست أول حالة يقفون عليها!

 كنت أعرف أنها ترى أشخاصًا وتسمع أصواتًا، وأن هذه تجربة مؤلمة بالنسبة لها، وأن الحالة ستتدهور إذا لم يتم إدخالها المستشفى، لكن مع الأسف تم عزلها لعدة أيام في أحد الأدوار المرتفعة في بناية الشركة، حتى تفاقمت الحالة، فألقت بنفسها من النافذة وانتحرت!

ماتت تلك الفراشة الرقيقة قبل أن تنهي الخامسة والعشرين وأنا متيقنة من أنها عاشت سنوات بؤس طويلة لا يعلمها إلا الله، فيا للحياة الضائعة ويا لوجه الفقر القبيح والجهل المجحف.
رحمة الله تغشاك يا والتك.

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 90

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *