القائمة

مذنّب هالي وطاهر الزهراني والإكوادور وبضاعتنا الكاسدة!

مقال لـ: حامد بن عقيل

كتب طاهر الزهراني عن الموظف الذي يريد أن يستقيل ليكتب رواية فنتازية. وفي ذات سياق الفنتازيا التي تطالعنا اليوم في مقال طاهر؛ قال صديق، كنت أتحدث معه، عندما شاهد جاري مقبلاً علينا: أنت كمذنّب هالي، لا نراك إلا كل 75 سنة! وعندما مرّرتُ مقالة طاهر لصديق كان رده: هناك في الإكوادور. القصيدة التي لا أدري لماذا يذكرني بها بعض الأصدقاء، لكنني أعلم يقيناً أنني كتبتها في لحظة، تماما كحياتنا التي يندر أن يمر بها مذنب هالي مرتين.

من اللحظات التي شعرتُ فيها بأسى تلك اللحظة التي وقفتْ بيني وبين صديقي وجارنا المذنّب، أعني أن أشعر بهشاشة هذه الحياة، فبينما انشغلا في الحديث كنت أتطلع إلى السماء، أفكر في معنى حياة يمر بها مذنّب كل ما يراه تحته من حيوات لبشر أو حيوانات يعلم أنه يتقاطع معها للحظة واحدة، كل هذا العالم المتحرك في الأسفل سيتم استبداله قبل موعد الزيارة التالية!

ما أسوأ الأمل في مقالة طاهر، التي تشبه حقا حلم الشاعر في الإكوادور، ذلك الشاعر الذي يرغب في عزلة بسيطة، فقط بعض وجوه يألفها وصديق أو اثنين ليستمعا إلى قصائده، وكوخ قرب البحر وحانة عتيقة. هو منعزل إلى درجة أنه سعيد، لكنه لا يفكر في كتابة رواية فنتازيا، ليست لديه وظيفة ليستقيل منها، ولا يفهم كيف يتحول الأدب إلى مادة يمكن أن يكون لها ثمن.

قبل أيام قرأت حوارا عن شاعر فاز بجائزة ما، صرّح بأنه لا يدري كيف تسير قصائده بين الناس فهو لا يحملها إليهم. تذكرت أيضا بول شاؤول الذي أنقذني في زمن ما من ادعاء ما لا أدركه حقاً؛ أعني المعرفة والإجادة، أو الاعتقاد أن العالم ينتظر ما أكتب!، قال مرة في حوار صحفي إنه لا يحمل دواوينه معه، ولا يعرف كيف يهديها.

بكل هذا الوعي، لا زلت أتورط في الحديث عن آخر فتوحاتي العظيمة، ثم أشعر بالحزن، لن تكون حياتي ذات معنى لا بالكتابة ولا بما سواها، فحين يعود مذنب هالي للظهور مجدداً سأكون في السادسة والثمانين، إذا مدّ الله في عمري، لن أستطيع حينها التحديق فيه بنظري الموهن، وهو لن يراني وقد احدودب ظهري وغبت بين جموع الشباب بقاماتهم المنتصبة والذين لا يدركون أنهم سيكونون جزءا من التاريخ عند عودته مرة أخرى. كذلك ما نكتبه، هذا الدفق الهائل، في أحسن حالاته سيتحول إلى كتابة كلاسيكية، وسيتم انتخاب جزء من كل هذه الكتب، بينما يكون أصحابها هناك، ليس في الإكوادور، ولكن في مكان مظلم ورطب وموحش.

بقي أن أشير إلى أن من يفكر في الاستقالة لكتابة نص أدبي، إما أن يكون مجنوناً، وإما أن يكون وارثاً. فبغض النظر عن كل ما كتبه طاهر من أسباب ومسببات حقيقية وصادقة لأنها تتحدث عن بضاعتنا الكاسدة، تلك البضاعة التي يعتقد الآخرون أنها مجدية لمنتجيها، بغض النظر عن كل ذلك، ومهما بلغ الكاتب الفنتازي من خيال جامح، فإنه لن يستطيع كتابة فنتازيا تحاكي مجموعة من البشر في كل مرة يمر بهم مذنب هالي يجدهم في صراع لا يهدأ، ومع كل مرور يلاحظ، بالتأكيد، أن جميع الوجوه جديدة لم يرها من قبل، لكنه يعرف صراعهم الذي تكرر منذ زمن ابني آدم، وسيستمر إلى يوم الدينونة، صراع مستمر بوجوه جديدة في كل مرّة، دون أي أمل في أن يتعلم البشر من صراعاتهم السابقة، أو حتى يستوعب أي منهم محدودية حياته وقصرها، اللحظة التي تنقضي سريعا، بل إنها أقل من ومضة تشبه مرور ذلك المذنّب إذا ما قورنت بزمن هذا العالم من خلقه وحتى زواله.

هناك في الإكوادور

شاعر يجلس في حانة قديمة

يقهقه مع الأصدقاء بعد الكأس الثالثة،

لكنه كبقية الكائنات المحدودة والهشّة

لن يكون هناك

حين يعود هالي للظهور مجددا.

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 76

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *