نقطة*

*بقلم: فاطمة الفقيه

النقطة، تلك البقعة الصغيرة من الحبر التي تأتي في آخر السطر، وفوق الحرف، وبين الأرقام، هي بقعة صغيرة لا تتطلب من الجهد سوى ضغطة بسيطة من يد الكاتب، ولا تحتاج من المهارة أكثر من قدرة طفل على الإمساك بالقلم. لكن، بالرغم من تفاهتها، ففي كل موقع تحلّ فيه يمكنها أن تغيّر المعنى والقيمة والتاريخ. فقد تأخذك في اتجاه آخر وأرض بعيدة، وإن جاءت مع أخواتها كنقاط متتالية، فهي تقول لك بصوت واضح إن الحديث استمر دون توقف، أو أن أنفاس الراوي قد تقطعت، فأكمل أيها القارئ.

من الذي اخترع النقطة، أم أنها أصل الأشياء، الجزء الصغير المتناهي الذي إذا تراكم صنع كينونة هائلة؟ ربما هي كذلك، فنحن نقول “نقطة من بحر”، وكأن البحر نقاط لا حصر لها مجتمعة.

هل النقطة حركة أم رمز؟ هل تنتمي إلى عالم الأرقام، لتفصل بين رقمين فيصبح رقماً عصياً على القسمة والضرب، ثم تصبح لا شيء لو أحاط بجانبيها صفران؟ أم أنها تنتمي إلى عالم الحروف، بالرغم من أنها في العربية ليست حرفاً، لكن اللغة لا تستقيم بدونها، فنصف الحروف لا تُقرأ بدون نقطة. وعندما تأتي في نهاية النص توقف الحديث وتنهي المعاني فيعود السكون، وقد تأتي لتفتح باباً لقصة طويلة، فنقول: “نقطة من أول السطر”، ثم نكمل إيذاناً ببدء فصل آخر وحياة أخرى.

في المشافهة يستخدمها البعض كإشارة شديدة الاختصار تنهي أي سجال طويل بلا معنى، أو لتوقف اللهاث فيلتقط الإنسان أنفاسه فيفكر ويشعر، فتتدفق في ذهنه بدايات جديدة.

 في أحاديثنا نقول: “لدي نقطة”، فيعطيك المستمع انتباهه بحذر، فهي نقطة، وقد تقول: “لدي عدة نقاط” كإشارة إلى أمور كلها مهمة لكنها لا تشبه بعضها، لذا صُنِّفت في شكل نقاط.

النقطة من السماء هي بداية الفيض وبداية المطر، لكنها إذا جاءت قليلة العدد وتوقفت فهي دليل الشح. فهو لا ينفق، بل ينقّط.

أما بالنسبة لي، فأنا أحب النقطة كثيراً. أنهي بها الحديث الذي يجلب لي الصداع، فأقول قولتي الأخيرة وأختمها بكلمة “نقطة”، أي أني لن أقبل الاستمرار في استنزاف طاقتي. لكني أيضاً قد أنهي بها حديثي بحب، لأفسح المجال لمستمعي كي يتدفق بما يجول في خاطره أيضاً يقول إخوتنا المصريون: “جاب لي النقطة”، أي جلب لي البلاء، ثم يطلقون على هدية الزفاف “النقطة”، وكذلك الاحتفال بالراقصة بالنقطة. وعندما يضجرون من شخص ما يطلبون منه بعضاً من “نقاط سكاته”، وحين يختصمون مع أحد يأخذونه إلى نقطة الشرطة.

حقاً، ما هي النقطة، وكيف تقوم بكل هذه الأدوار الهائلة بينما هي مجرد نقطة؟ 

وهل في حياتكم الإنسان النقطة؟

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 98

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *