القائمة

المدينة التي تسكن إليها

أعترف بأنني لا أستطيع الابتعاد عن جدة أكثر من عشرة أيام، هناك رغبة في العودة مهما كان البلد الذي زرته جميلا.

 أتنفس الصعداء بمجرد الوصول لها، وعند ركوب التاكسي والعودة إلى البيت أشاهد المدينة التي لم تعد تشبهني، هناك امتداد، وهناك تبديل، ومشكلتي مع الامتداد والتبديل أنه يتنافى مع السكون الذي أريده.

في بالي نموذج صغير، أنت تركت لنقل مكتبتك التي من المفترض أنك الوحيد الذي تدخلها، المكتبة ليست في حالة جيدة من حيث النظافة والترتيب، كتب فوق بعضها في الزوايا ليس لها مكان على الرفوف. مجلات قديمة مبعثرة، بعض الصحف على المكتب الذي يعلوه الغبار، وعليه دوائر من آثار الشاهي الثقيل، مسودات أعمال قديمة، بعضها كتب بالقلم، وبعضها مطبوع ولست بحاجة له، لوحة على الجدار بحاجة لتثبيت، عدد من الأفلام الفي اتش اس، والكاسيتات، أباريق زجاجية بوهيمية، لوحات مركونة بحاجة لتعليق، السجاد لم يكنس من فترة طويلة، سلة النفايات فائضة، هناك أشياء تخص والدك، أشياء كثيرة قد همدت بسبب رحيله، كل من دخل عليك المكتبة يشعر أنه عاد للوراء عقود، قبل هذه الصورة أنت سافرت لمدينة عريقة قديمة، وعاصمة للفن والثقافة، فتدخل أصغر بقالة، فتجد جدارا مخصصا للجرائد والمجلات، تذهب لحي مشهور فيها فتجد الأسطوانات القديمة، والسيديهات، وأشرطة الكاسيت، لماذا اختفت من عندنا وبقيت عندهم، لماذا المقهى هناك منذ أكثر من قرن، لماذا تلك المسرحية تعرض من الخمسينات حتى الآن، لماذا لم يقلع أحد هذه الشجرة الوحيدة في هذه الساحة، ببساطة من أجل الشعور بالسكن!

لهذا يضطرب الشعور عندما تعود من رحلتك، وتذهب لمكتبتك وتجد أنه قد تم تنظيفها، وترتيبها، ونقل أغراضها من مكان إلى آخر، ومكتبك قد استحال لطاولة تصلح لتقطيع الخضار لا الكتابة، السجاد نظيف، ولم تعد هناك رائحة للمكان، هكذا أصبح المكان ليس مكانك!

لطالما تمنيت أن تبقى الأشياء كما هي، مكتبة مصطفى السوداني حيث بيع الصحف والمجلات، تقلّب الصفحات بهدوء دون توتر لتعرف أخبار العالم، أن يبقى محل فيديو الساحل الغربي الذي كنت أذهب إليه كل أربعاء من أجل استئجار فيلم واحد فقط وإعادته في اليوم التالي، أن يبقى مطعم الأصدقاء في شارع المندي، أن تبقى قهوة أبو مشاري، أن يبقى دوار طارق بن زياد مكانه، أن تبقى مكتبة المأمون، أن تبقى الأشياء ليس لقرن بل لعقود قليلة قادمة فقط.

المدن العريقة والعظيمة ليست تلك التي تتمدد وتتبدل لتوهمنا بالتقدم، بل تلك التي تبقى كما هي وتبعث فينا الشعور بالطمأنينة والسكن. 

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 74

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *