القائمة

الحيوانات تُعلف؛ الإنسان يأكل*

*هذا المقال بقلم: علياء العمري

استوقفتني عبارة المحامي الفرنسي جان أنثيلم بريبا-سافارين في كتابه “فسيولوجيا الذوق”: “الحيوانات تُعلف؛ الإنسان يأكل”. هذا الفرق ليس ترفًا فلسفيًا، بل هو جوهري وعميق. فالإنسان العاقل لا يلتهم طعامه بلهفة عمياء، بل يختاره بعناية، يميز نكهاته، ويغوص في متعة كل لقمة، هذا ما يقصده سافارين في كتابه الذي يجمع ما بين آداب الطعام وطرق طهي الخضروات واللحوم والتمتع بالقهوة. 

الطعام اليوم لم يعد مجرد وسيلة لإشباع الجوع، بل أصبح أكثر تعقيدًا ودلاليًا. هو بطاقة تعريف اجتماعية وسلاح سري يميز “نحن” عن “هم”. فطوري الصباحي أو قهوتي التي أرتشفها ليست مجرد وجبة أو مشروب، بل إعلان عن هويتي، وطبقتي، ومزاجي. الغريب أن صناعة الطعام ابتعدت عن مجرد الإشباع أو التمييز الاجتماعي، وانتقلت إلى عالم التسلية والترندات. صار الطعام مؤشرًا على الحالة النفسية والمزاجية، والإنسان الحديث يبحث عن “طعام الترند” كأنه في سباق دائم مع ذاته لتجربة كل جديد وغريب.

اعتقد أن هناك علاقة بين الملل والدافعية نحو اختراع صور مختلفة ومنحرفة من الصلصات والإضافات والمحسنات للطعام. حيث طور إنسان ما قبل الحضارة الصلصات أساسًا للحفاظ على الطعام أو لإكسابه طراوة، فقد استخدم الإغريق مخمر السمك “غاروم” ليضيف نكهة وملوحة، وهو ما يعرف اليوم بالصلصة الأم لصلصات المطبخ الاوروبي والأمريكي والعالمي ايضاً. فمخمر السمك الذي ازدهر في الصين وكان يدعى (كوجاب) يعد الصورة الأولية للكاتشاب الحالي حيث تطور في أمريكا في الوقت الذي أنشأ البستاني الأمريكي جيمس ميس أول وصفة معروفة للكاتشاب بالطماطم في عام 1812. كانت وصفته تحتوي على البراندي لكنها خلت من الخل والسكر المعتادين. وسرعان ما ظهرت العديد من وصفات الكاتشب القائمة على الطماطم في أوروبا والولايات المتحدة، لكن كثيرًا منها احتوى على إضافات مثل المحار أو الأنشوجة.

وإليكم المفارقة الهزلية، في أوائل القرن التاسع عشر، كان يُباع الكاتشاب بالطماطم في الصيدليات كدواء للإسهال وعسر الهضم، كم كنت اتمنى ان يستمر على ارفف الصيدليات، في تلك الفترة، كان المزارعون هم من يُعد الكاتشاب، مبتهجين لإيجاد طريقة جديدة لحفظ الطماطم. ومع تزايد شعبية المنتج، قررت الشركات دخول السوق. وكانت الصلصة الأكثر شعبية. ويرى خبراء الطعام أن سر نجاح الكاتشاب واستمراريته كصلصة مصاحبة لعدد كبير من الوجبات في العالم أجمع، إرضاءه لأكثر من حاسة من حواس التذوق فهو حامض وحلو ولاذع.

فالإنسان المعاصر يستمتع بأطباق شديدة التعقيد تعتمد على مزيج من الصلصات التي تعبث بالذائقة الأساسية والبسيطة، مما يثير في دماغه شعورًا بالسعادة بعد استهلاك كميات من الصلصات المالحة والحلوة والمقرمشة. هذا المزيج ينشئ شعورًا من الشراهة والملل في آن واحد.

ومع تطور الإنسان، انتقل من مجرد تناول الطعام للبقاء على قيد الحياة إلى عالم الوفرة والملل اللذان غزا ذائقته. فأصبح الملل يلعب دورًا كبيرًا في تغيير الذائقة أو انحرافها بعيدًا عن طبيعتها الأصلية. وبعيدًا عن أي حكم قيمي، أو صحي، تطغى نماذج الطعام الحديثة والترندات والصلصات المستحدثة على طريقة تفكيرنا وعلاقتنا بالطعام.

فظاهرة “الفبّينج” (Phubbing) – أي الانشغال بالهاتف المحمول أثناء تناول الطعام – جاءت كطريقة غير مباشرة لكسر هذا الملل الحياتي. بدلاً من الانتباه إلى الطعام اثناء تناول الوجبة ومشاركة الاصدقاء وأفراد الاسرة الحديث، نلهي أنفسنا بالهواتف، نلتقط الصور، نشارك الوجبات على وسائل التواصل الاجتماعي، ونقيس نجاح أطباقنا بعدد الإعجابات التي نحصل عليها. هذه الظاهرة تعكس أزمة أعمق في علاقتنا بالطعام، حيث يتحول الأكل من تجربة حسية وذوقية إلى عرض رقمي نبحث فيه عن التقدير الخارجي بدلًا من الاستمتاع الداخلي. 

ففي زمن الوفرة، أصبح “المزيد” لا يكفي، فحتى الكثير من الطعام بات قليلاً طالما أن الملل يجتاح ذائقتنا ويحثنا على البحث المستمر عن الجديد والغريب. هذه الحالة دفعتنا إلى استحداث مئات الصلصات والإضافات، فتتداخل المذاقات المالحة والحلوة واللاذعة في مزيج معقد يحفز الدماغ على الاستمرار في البحث عن المزيد، ولكن دون رضا حقيقي.

بالتالي، لم يعد الطعام مجرد مادة غذائية، بل صار ميدانًا لصراع داخلي بين رغبتنا في الاستمتاع بما لدينا وما نحب، وبين ضغط الملل المستمر الذي يدفعنا نحو التجدد المتواصل، حتى وإن كان ذلك على حساب جودة التجربة نفسها. 

الملل هنا ليس حالة عابرة، بل هو ظاهرة عميقة تؤثر على علاقتنا بالطعام، تجعلنا نستهلك بلا وعي، نلهث وراء ترندات لا تنتهي، ونفقد القدرة على الاستمتاع الحقيقي بالنكهات البسيطة. هذا الانحراف يطرح تساؤلات مهمة: كيف نستعيد توازننا مع الطعام؟ وكيف يمكن للوعي أن يساعدنا على تجاوز ثقافة الاستهلاك التي تسرق منا متعة الأكل؟

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 83

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *