*هذه المقالة بقلم: علياء العمري
أحيانًا تباغتنا حالة نركن بها فجأة مع أنفسنا في صمت، ليست مجرد انسحاب أو هروب من العالم، بل هي اشتياق عميق، نوع من الحنين غير المعلن إلى حضن أولي، إلى حالة بدائية كانت فيها الحياة أبسط وأنقى وأكثر انسجامًا مع الكون من حولنا. قد نتخيل أنفسنا كخلية أم، كائن متكامل لا يعرف التشتت أو القلق، يعيش في وحدة تامة مع المحيط، تلك الحالة من السكون العميق والاتصال الكامل مع الحياة هي التي فقدناها، مع تعقيدات الوعي التي أصبحت أحيانًا عبئًا ثقيلاً، كأن عقلنا قرر فجأة أن يأخذ عطلة!
لقد نما وعي الإنسان، لكنه ظل محدودًا، أحيانًا مخادعًا، يجعلنا نشعر بالانفصال والنقص. لذلك بدأنا نبتكر آلات وأدوات ليس فقط لتسهيل حياتنا، بل في محاولة لتفسير مشاعرنا اللاواعية وملء ذلك الفراغ الداخلي. على سبيل المثال لا الحصر: آلات ذكية تذكرنا بموعد شرب الماء، وأخرى تحثنا على النهوض قبل أن نتحول إلى نبتة!
هذه الآلات ليست مجرد تروس ومعدن، بل هي رموز لرحلتنا المستمرة في محاولة فهم ذواتنا بعمق أكبر وإعادة الاتصال بذلك الجزء البدائي الذي ما زال ينبض في أعماقنا، رغم أننا غالبًا ما نرد عليها بعبارة: “لاحقًا، دعني أكمل بحثاً عني.”
في هذا المشهد، الانكفاء على الذات والابتعاد عن الكون ليس نهاية، بل فصل مؤقت في قصة الإنسان الطويلة، مرحلة من مراحل الرحلة نحو استعادة الاتصال بالكل، نحو توحيد الداخل مع الخارج، نحو السلام مع الذات والكون. الاشتياق إلى حضن الخلية الأولى ليس مجرد حنين عابر، بل رغبة فطرية في العودة إلى حالة من السلام والتكامل، رغم كل الفوضى والتعقيدات التي نعيشها، وأحيانًا رغم الفوضى التي نسببها لأنفسنا بمحاولاتنا المتكررة لفهم ما لا يفهمه أحد بالفعل.
وهنا يكمن السر، في ذلك التوتر الجميل بين الانفصال والوحدة، بين القصور والكمال، بين الفوضى والسكون. هذا التوتر هو ما يحرك الإنسان، يدفعه للبحث المستمر عن معنى، عن طرق للتصالح مع ذاته ومع العالم من حوله. وفي هذه الرحلة، تكمن عظمة التجربة الإنسانية، السعي الدائم للتحرر من قيود النفس، وإعادة بناء الجسور التي تربط بين الذات والكون، بين الماضي والحاضر، وبين الفوضى والسكون. كأننا في رقصة دائمة، نخطو خطوة إلى الأمام، نتعثر في حذائنا، نضحك على أنفسنا، ثم نتابع المشي.
وربما حين نحتضن هذا التوتر بنظرة مرحة وخفيفة، ندرك أن الحياة ليست سوى رقصة زوربا اليوناني، وأننا في النهاية، مهما ابتعدنا، سنظل نبحث عن ذلك الحضن الأول، عن الخلية الأم التي بدأت كل شيء، حيث ينبع كل السلام وكل الإبداع، أو على الأقل عن مكان نرتاح فيه من كل هذه الفوضى، حتى لو لبضع دقائق، قبل أن يعود عقلنا ليقول: “هل أنت متأكد أنك تريد أن تستريح؟ هناك رسائل جديدة تنتظرك!”