وأنت على مشارف الخمسين، وتشعر بجمال العيش، ومتعة التعاطي مع الحياة، تذكر أن ترأف بحالك وبمحبة، فالقدرات بدأت تخفت، وطاقتك أصبحت محدودة، بينما الرغبات لم تستوعب بعد ما تتحمله أدوات الحضور،كنت تصعد الجبال في نهارات القرى، ثم تقوم في اليوم التالي لاستكمال غاراتك في شعاب أخرى دون كلل أو تعب، الآن تتسلق هضبة فتصاب بالتهاب في مفصل الركبة لتجلس على الكرسي لمدة شهرين بسبب ذلك، تسافر في سماء الله مرة أو مرتين في الشهر فتشعر باضطراب في حضورك الأرضي، تذهب للأماكن لتزور معلما أو معلمين وتكتفي لأن رغبة الاكتشاف بدأت تنحسر، لتترك هوس التجوال للفتيان الذين لا زال عنفوان الحياة يضرب عروقهم النابضة، السهر يهدك، والمشاوير الكثيرة لم تعد تليق بك، وتلزم أقصى اليمين وأنت تقود سيارتك التي تشبهك من أجل أن تبلغ البيت وأنت في مزاج جيد، ثم تقصد مكتبتك بعد أن تبعث تلويحة سريعة لأهل الدار، أصبحت تتفقد مهامك اليومية القليلة بعناية، الإنجازات بدأت تقل حتى لأحب الأشياء إلى قلبك، تمكث أغلب الوقت وأنت تقرأ، حتى هذه الممارسة بدأت في التباطؤ، ففي السابق كنت تقرأ أكثر من خمسين صفحة في الساعة، الآن أقل من الأربعين، ساعات النهار تقضيها في المكتبة، تتعب من القراءة فتحدث صديقك دقائق معدودة، لتعود لكتابك الذي ينتظر الفكاك من بين يديك بعد أن تفككت أوراقه، فصاحبه لم يعد يجرب حظه مع عناوين حديثة، ولا مع كتاب سيدخل في رهان ما حتى يؤكد أحدهم أن ما كتبه يستحق القراءة، أنت تفضل كتبك القديمة، التي قرأتها قبل عقود، أيام الفورة والوفرة والذائقة المتسعة لكل شيء، أنت الآن تعود لقراءة الامتاع والمؤانسة للمرة الثالثة، وقراءة مونتيني للمرة الثانية، والعودة للمرة الخامسة لقراءة دون كيخوته.
وأنت على مشارف الخمسين، تدرك أن فحم الحياة قد استحال إلى قيمة، وطاقتك المحدودة أضحت نبعا محدودا لماء الحياة الأغلى، وحركتك معنى، ومزاجك طفلك المدلل.
على مشارف العقد الجميل الفاخر اربت على تفاصيل يومك، وتخفف من ضجيج الشعارات، وتأمل أكثر من الكلام، وتلّمس أورق العمر بكثير من الحب، وأكثر الشكر لمولاك، وأحسن الظن به تطيب لك الحياة.
الله يا طاهر، فلسفة البطء والتذوّق والتأمل عادة الانسان الممتلىء بالحياة الانسان المتزن الانسان الفيلسوف وفوق ذلك الانسان الجميل الذي يحيط به الجمال وينضح به لغيره.
أهلا حبيبي سعد، نورت المكان يا جميل.