القائمة

تشكوسولفاكيا تعود على الخريطة!

“تشيك” دولة تحضر عندما نلامس نقشاً على بندقية “برنو” أو نتصفح رواية لكونديرا، تشيك وطن الأدباء المؤثرين في العالم، فلا أحد ينكر الأثر الذي أحدثته عوالم كافكا العجائبية، وكذلك كونديرا الذي شكل مفهوم الرواية الحديثة خلال مشروعه السردي الكبير.

في البداية لم يعجبني كونديرا رغم أني قرأت له أعمالاً كثيرة لأسباب كثيرة، هذا الانطباع تغير بعد سنوات طويلة، بسبب أسلوب كونديرا المنسجم مع أرائه وفلسفته، وتكريسه لمفهوم الرواية الحديثة الذي اكتسب ثراء كبيرا بسبب تجربة كونديرا السردية الفارقة، كونديرا كرس عندنا أن الرواية أكبر من أن نضعها في قوالب ونضيّق عليها بعناصر تقليدية قد تجعلها مع الزمن مجرد تحفة قديمة على الرف! 

..

قبل سنوات طويلة، قرأت فصلا منشورا من رواية تشيكية في صحيفة الحياة، لكاتب تشيكي لم نسمع به من قبل، يدعى إيفان كليما، انتظرت حتى صدرت الرواية عن دار التنوير عام 2012 وكان عنوانها “حب وقمامة”، هذا الروائي لم يأسرني في حدود ما كتب، وإنما جعلني أتعرف على التشيك من جديد، حرضني على التفكير في قضايا أخرى، تخص اللغة، والانتماء والمنفى، والوطن، والألم، ومعنى حضور الأدب في حياتنا.

فإذا كان كافكا وكونديرا، حددا المعالم ورسما أشكالا للسرد، فإن كليما قد أثث ما كان الأدب التشكي بحاجة إليه، ففي الوقت الذي كان يتحين بعض الأدباء فرصة الفرار إلى بلدان أخرى من أجل البحث عن الأمن، والاستظلال بلغة أخرى، بعيداً عن الاستبداد والاعتقال، يتشبث كليما بوطنه، يصارع الاستبداد، يحاصره نظام ديكتاتوري مستبد، فيفضل أن يكون بين قرائه وناسه الذين يفهمونه ويحبونه.

حتى عندما ذهب إلى أمريكا للتدريس، وطلب منه المجيء إلى بلده، قال له البعض: لا ترجع فسيكون مصيرك سيبيريا!

لكنه يرجع في أسوأ حال تمر بها البلاد، تحت نظام قمعي مستبد، لم يسلم منه الناس والأدب فصرخ “على الأدب أن يرفض أن يتم استعماله من أجل غرض ما” وطالب بمنع الرقابة على الكتب والثقافة فمنع النظام مؤلفاته، وكانت الكتابة هي مصدر رزقه الوحيد، فلم يجد سوى أن يكون كنّاساً في وطنه، ربما حياته في وقت مبكر من عمره في المعتقلات النازية، جعلته يمارس نوعاً من كنس الألم والشقاء الذي لن يدوم طويلا، يقول في روايته “حب وقمامة” : “لا يحب الرجل أن يقبل فكرة وصول حياته إلى خاتمة في ما يخص أهم جوانب هذه الحياة، حيث تتحقق آماله، يتردد الرجل إزاء النظر في وجه الموت، ما من شيء أقرب إلى الموت من حب يتحقق!” ثم يعقّب في مواطن آخر: “كيف يستطيع إنسان أن يريح الحب إن كان غير قادر على الوصول إلى القرار؟”

كافكا كتب بالألمانية، وكونديرا بالفرنسية، وكليما بالتشيكية، هؤلاء هم أثافي السرد الثلاثة الذين استطاعوا إعادة تشكوسلوفاكيا بعد أن سقطت من خريطة العالم. 

الأدب هو عصارة من التجارب والمشاعر والحيوات، وفتنة اللغة، تتحد أثناء عملية الكتابة والقراءة في معالجة وتكوين للمعنى العظيم والمؤثر، وقد يكون الأدباء في لحظة ما هم سفراء أوطانهم الغائبة! 

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني كاتب، وروائي، ومحرر أدبي.

المقالات: 34

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *