بيت آخر..
أتذكر بيتنا الأول الذي كان يتكون من حجرتين صغيرتين، كنت في الثالثة حينها، وأحاول أن أرى العالم بعيدا عن الحجرتين والطبطاب الاسمنتي الممتد، كان للبيت باب شمالي وآخر جنوبي، من خلال الباب الشمالي كنت أسترق النظر فأجد التراب الذي يدفعني للتذوقه والتقلب عليه، وكنت أرى في الأفق أحد الأطفال يطيّر طائرة ورقية، كنت أختلس النظر أحيانا بينما أمي تقف أمام الباب لتحدث إحدى جاراتها، لم يكن هناك أحد سوى تلك الجارة، وفي أحد الأيام أتت مع طفلتها التي كان بيدها بسكوت بالشوكولاته، بسكوت ورقته برتقالية، الطفلة شاهدت نظرتي من وراء أمي نحو البسكوت المغطى بالشوكولاته، فدفعت الشكولاتة نحوي من أجل قضمة، تقدمت خطوة ثم قضمت البسكوت، كانت في فمي أشياء تقرمش وتومض بأنواع من البهجة والحب، أحببت بابنا الشمالي، الذي جعلني أتعلق بشوكلاته “توفي كرسب” والطائرات الورقية.
الباب الجنوبي في بيتنا هو الباب المهمل، والإهمال صنو الجنوب دائما، لم يكن هناك سوى زقاق، وجدار، وصندوق كبير ملتصق بالجدار، بداخله أشياء ملونة تشبه خيوط الصوف، كان لابد من معرفة سر ذلك الصندوق الكبير وألوانه المتداخلة، خرجت من الباب في حين غفلة، توجهت نحو الصندوق الكبير الذي يرتفع عن الأرض بمتر ونصف، أخذت سيخا يشبه صنارة الصوف، ثم أدخلته لأعبث بالألوان، فصعقتني الألوان وقذفتني عاليا، غبت عن الوعي، وانقطعت الكهرباء عن البيوت المجاورة، قام أبي فزعا بعد أن سمع صوت الانفجار فوجدني في الزقاق غائبا عن الوعي بعد أن صعقتني الكهرباء، انتقلنا من البيت بعد أيام قليلة بعد أن جعلني بابنا الجنوبي أتعلق بالألوان، والجدران، والأزقة، والجنوب.
انتقلنا لبيت شعبي آخر، غرفتان وحوش هذه المرة، هذا البيت كان للضوء والناس، أتذكر أن الجيران كانوا يحيطون بنا من كل الجهات على الرغم من بابه الوحيد، فعرفت طعاما مختلفا، وناسا أكثر، وأصبحت أشاهد الأفلام في بيوت الجيران، وكانت بجوارنا مكتبة، وغرفة صغيرة لرسّام هندي، يرسم وسائل للمدارس، ولوحات للمحال. وفي ذلك البيت عرفت جدتي التي كانت تحكي لي الحكايات على الدوام، في ذلك البيت تعلقت بالناس، والحكايات، والكتب، والرسم، والأفلام، والطعام، والضوء، والظل الذي كان يمنحه العريش.
ثم انتقلنا إلى بيوت شعبية أخرى في جنوب المدينة، حيث الأزقة الكثيرة، والجدران التي يسهل تسلقها، وأناس يستمعون إلى الحكايات التي سمعتها من جدتي، تعلمت صنع الطائرات الورقية، وأصبحت ألون كثيرا، وألعب في أماكن تعلوها أبراج الضغط العالي، ليصعقني الوعي بعد ذلك، لأشعر أن الحياة أفضل في البيت، بين الكتب التي جمعها أبي.
تعبنا من الانتقال من بيت إلى آخر، حتى قررنا أن نبني بيتا أكبر هذه المرة، وأخوض تجربة جديدة تخص عالم البناء لأكتشف أني لا أتحمل البيوت المسلحة، أنا الذي قضيت كل حياتي أستيقظ كل صباح في بيوت سقفها من خشب، أن أتورط بتفاصيل لها علاقة بأنواع الديكور، والتردد بين أنواع البلاط، والدهانات، والأفكار التي تتعلق بالبيوت الذكية، التي تعبر بواباتها بتقنية البصمة، بعد أن كنا ندخل بيوتنا وبيوت الجيران بسحب حبل متدلٍ وكلمة سلام، كان ذلك فوق طاقتي المحدودة دائما.
لهذا قررت في خضم هذا العناء الهائل، أن أتخلى عن هذه المهمة لأخي الذي يصغرني، لأفكر بعدها وفي حالة من التجلي اللذيذ الذي منحه لي بسكوت الشكولاته القديم أن أشيد بيتا آخر من ضوء فكانت هذه المدونة!
مرحبا بكم.
تذكرت رواية أطفال السبيل (توفي كرسب) و(صعق الكهرباء)
بركة الدراسة 🙂
صدقا ما أتذكر، لكن هذه التفاصيل تفرض نفسها في النصوص.