لم أكتب يوما وفي بالي أن أحصل على شيء من وراء الكتابة، لأن التصور الذي تكون من خلال السينما كون أن الكاتب يعيش حياة باذخة من عائدات أرباح كتبه تلاشى مبكرا مع تجربتي الأولى في عالم النشر، أما ما حصلت عليه منها كان بعد الكتابة بعقود!
لقد كتبت ابتداء من أجل التخفف من الأثقال، لقد كتبت كي أكون حرا ببساطة، والحرية أعظم من المال، لهذا لم يكن بريق المال يشغلني كثيرا خلال أكثر من عقدين، لقد وهبني السرد الكثير من الأشياء الروحية كوني كتبت من أجل الحالة التي أود الكتابة عنها.
لقد كتبت بدأب وحب كبيرين، وكان هناك طائف يلوح لي أن اغتنم فصول عمرك، فقد يأتي الربيع دون كتابة، وقد حدث، الآن مرت خمس سنوات لم أعد للكتابة التي تغرقني.
أتذكر أن كل ما يحدث في الكتابة كان جميلا حتى المحو وهو الأمر الألطف ويستحق الامتنان كثيرا، الكلمات التي تأتي إليك وتغمرك بالدفء، وتجلب لك الأفكار، وتحضر المشاهد، ثم تقول لك لقد قمنا بالواجب لا نريد الخلود سنذهب لجنة العدم.
كتابة الاستغراق الأخيرة كانت مع “آخر حقول التبغ” ثم انشغلت بأشياء كثيرة ومغرية من هدايا الكتابة، أن تسافر على الدرجة الأولى وتستقبل في المطار كدبلوماسي، يؤخذ منك الجواز وتتم الإجراءات وأنت في صالة النخبة، وتذهب إلى فنادق الخمسة نجوم بسيارة بي إم أو مرسيدس، يحتفى بك في بلدان ومدن، تحاضر في مكان ما فيترجم كلامك للعديد من اللغات في نفس اللحظة، تتحدث من على منصة الأمم المتحدة كسياسي واهم يريد أن ينقذ العالم، كل هذه الأشياء لم تكن في بالي.
لكن حدث أن الكتابة كحالة وجدانية واستغراق حميمي ذهبت!
قد يقول أحدهم: اترك عنك الهالة الكلاسيكية تبع كتاب الستينات.
ربما أتفق معه في ذلك، لكن هناك تورط ما حدث، وهو الانسياق في حياة أخرى مع مراعاة لسبل العيش، الانتقال من حميمية الكتابة إلى جلد المسؤولية.
إن الكتابة التي لا ترجو منها سوى الكتابة هي قيمة روحية كبرى، وما سوى ذلك مجرد كتابة آلية تلفظ الكلمات من أجل شيء ما لا علاقة له بروح الكتابة، ربما له علاقة بالعيش كما ذكرت سابقا، وبين الكتابة والعيش أمور ظاهرة وباطنة، الكاتب الفطن لا يجهلها.
إن كان هناك ما أريد قوله في آخر هذه التدوينة هو استثمار لحظات الإقبال والتجلي والعيش في الكتابة لأن العوارض والثقل وأشياء أخرى سوف تصرفك عاجلا أم آجلا، أن تكتب من أجل أن تحصل على شيء ما في الغالب لن تحصل عليه، الأسمى أن تكون الكتابة من أجل الكتابة.
*الصورة في بيت الشربتلي العام الماضي.