القائمة

العيارات الصوتية*

*هذه المقالة بقلم: فاطمة الفقيه

قرأتُ ذات مرة مقولة تُنسب ربما لأحلام مستغانمي إن أول ما تفعله المرأة عند الاستيقاظ هو لملمة شعرها المتناثر في إشارة للاستعداد لمواجهة الحياة، أما اليوم فقد تغير كل شيء، ويبدو أنه قد تغير للأبد. فما إن يستيقظ الإنسان حتى تمتد يده متلمسة سطح الكمودينة، باحثا عن الهاتف، يدخل الرقم السري الذي يحفظه كما يحفظ اسمه، ويذهب مباشرة إلى منصات التواصل، يستعرض محتوى متشابهاً، بمسميات مختلفة؛ بوست، سنابة، تغريدة، ريل، يتدفق بغزارة بعضه مجدٍ وكثير منه كزبد البحر. 

لكن ثمة محتوى بعينه لا يبشر بخير، يعلم الإنسان كيف يحمي نفسه وطاقته العصفورية النادرة من الآخرين، تارة بفنون الرد الحاسم، وأخرى بالتجاهل، والإقصاء، ورسم الحدود والقطيعة إن لزم الأمر، ووضع حدود صارمة فلا يجرؤ الآخر على سؤاله عن تفاصيل حياته، أو التعليق على أمر يخص وجوده الجوهري المتميز العظيم، عدا طرق تقنين التواصل معه، من يريدك يأتي إليك، يجب يرسل واتساب تحضيري لك قبل أن يتصل، يشكرك ويتلطف ويترقق في الحديث معك، أنت مهم وهناك أسس للتعامل معك، أنت محور الكون. 

زخم من المحتوى، يضخم الأنا والفردانية ويشجع على التوحد وكأن الانسان ضب وليس مخلوقا اجتماعيا. 

ولا نكاد نسمع صوتًا واحدًا عاقل يقول “اتحمل”، “فوتي”، “استرجل”، “بطلي مياعة”، “سمّك جلدك” “مشي”. البشر خطاؤون، وأنت منهم. فما المشكلة أن يتصل بك شخص دون رسالة، أو أن تسألكِ زميلة إن كنتِ مطلقة، أو لماذا لم تنجب، أو أنك تعكس عمرك الخمسيني، ما الضرر مثلا من التعليق على وزنك أو حتى وصفك “بالسمين” طالما أنك سمينٌ فعلا وأن لديك مالًا يكفي لشراء الطعام والاستمتاع به وهذا بحد ذاته نعمة تستحق الشكر. 

ما الذي يخيفنا من صورنا في عيون الآخرين عندما يشاركونا رأيهم في أي شيء يخصنا؟ ما المخيف في أن يراني شخص ما فقيرا، أو صوتي عالٍ، أو لست جميلا، أو حتى لا أطاق، طالما أن لا سلطة له عليّ، عدا أني أنا أيضا قد أحمل عنه صورة ليست بالجيدة، فما الذي يمنع أن نتعايش بقبول ورضا، دون تضخيم لمشاعرنا فنقصي ونرسم حدود ونحجم لدرجة القطيعة وكل ذاك الهراء. 

ما الضرر من كلمة لا تهدم منزلًا، ولا تُحرم من أحبة، ولا تصادر رزقًا، ولا تهدد صحة؟ طالما أننا سنعود لأحبابنا آمنين، ونخلد في أسرتنا بهدوء، وقد نقضي الصيفية في باريس. ما الذي يخيفنا من مزاح الناس، من الأسئلة الفضولية، من التعليقات “الدفشة”، ونحن نعلم أنها ستتلاشى كغبار بلا قيمة، وكيف لكلمة لا تحرك نملة في هذا الكون أن تمتلك هذه القوة ضدنا، ولم أصبح التواصل الرحب مع البشر يؤرقنا، والمزحة تُفقدنا النوم، والرأي الصريح يبعدنا عن أناس قد يكونوا سندا أو ونسا.

ولو طبقنا كل تلك التوصيات، ترى هل سننجح في تقييد طبيعة البشر الفضولية، المفكرة والمعبرة والتي تتواصل؟ 

كلا لن يتغير شيء، سيبقى البشر فضوليون، ناقدون، متحذلقون، وسينطقون بالكلمات التي نهرب منها دون تزييف لكن “من وراء ظهرونا”.

فمن ملاحظاتي في الحياة فإن الأشخاص الرقيقين الذين لا يجرحون أحدًا بقول ما يرونه، وخاصة النساء، فصديقاتك اللواتي لا يمكن أن يخبرنك “أن ذوقك في اللبس سيء، فلا تتفلسفي علينا وكأنك زهير مراد”، أو طبخك لأولادك لذيذ، لكن لا تفكري تعملي بزنس، أو أنت اللي غلطانة مع حماتك، هؤلاء الصديقات بمجرد أن تخلوا جمعتهن منك ستصبحين أنت الوليمة.

ثم لو نجحنا في تغيير طبيعة البشر واستطعنا أن نخرس ألسنتهم ونكتم أفكارهم، من الذي سيخبرنا أن قراراتنا كارثية مثلا؟ من الذي سيعكس لك صورتك كما يراها الآخرون، إذا زورنا أحاديثنا ومشاعرنا وآراءنا، كيف سنبني علاقات حقيقية عميقة وصادقة تدوم مع الزمن.

إذا جعلنا حديثنا سطحي مليء بالمجاملات والمدح واللطف الدبق، وتجاهلنا أننا مخلوقات ناقصة بالضرورة، وقررنا الاختباء خلف نقصنا، فنحن بذلك نصنع المزيد من الهشاشة، والعزلة، والوحدة الحقيقية. 

أخيرًا فسلفتي التي لا أفرضها على أحد هو اعترافي، وإدراكي الكامل أن لا سلطة لي على العالم الخارجي، وأني لن أغير طبيعة البشر وأن أغلب الناس نواياهم ليست سيئة، وسيظل هناك من يمنحني تعليقاته على طولي ووزني وطريقتي ومن يخبرني بنقاط ضعفي، ومن يكرر الأسئلة، ومن ينصحني بما قد أعرفه أكثر منه، ولن أستطيع فعل شيء سوى الترحيب، والنظر بحسن نية وأن أجعل نفسي أكثر صلابة فلا يخدشها قول، ولا تثقبها جملة، فما قيل وما سيقال هو مجرد موجات صوتية لا يمنحها قيمة سواي.

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 83

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *