هذه التدوينة بقلم: فاطمة الفقيه
تحدثت امرأة مسنة عن تجربتها بعد أن تخففت من مهام الأمومة، فزوّجت أبناءها، وفرغ المنزل من ضجيجهم، صارت تجترّ ذكريات مرحلة عمرية معينة، كانت في الحادية عشرة من عمرها، عندما تسلّطت عليها لسبب مجهول معلمة دعتها باسم “هند”
كانت امرأة طويلة، أو بدت لها حينها كذلك، بحاجبين كثيفين شديدي السواد، وعينين جاحظتين فبمجرد أن تبحلق، كان ذلك يثير رعب الصغيرات، فيصمتن. وكانت تدرك جيدًا أن بحلقتها مخيفة، فتستخدمها كلما أزعجتها إحداهن. استطاعت “أبلا هند” أن تحيل حياتي، أنا بالذات دون جميع الطالبات إلى جحيم مقيم لسنتين متواصلتين، بالرغم من أني كنت طفلة مجتهدة وقلقة. كانت تصرخ في وجهي دون سبب، تقترب مني وتدعي أنها تشم رائحة كريهة مني فأشعر بحرج لا يوصف، ثم تطلب مني أن أقف آخر الصف عقوبة لأمر أجهله.
أتذكر في أحد الحصص، لم تحضر إحدى المعلمات، جاءت هي لتجلس معنا، عندما دخلت الفصل كانت أغلب الطالبات بعيدات عن مقاعدهن، لكنها اختارتني من دونهنّ لتصفعني صفعة جعلت أذنيّ تطنّ طنينًا لم أعرفه من قبل. وليومك هذا، لا أعرف ما الذي فعلته لأستحق هذه الصفعة، ولماذا لم تفعل ذات الشيء مع الباقيات، وبالمناسبة، لم تكن المرة الأولى التي تفعلها، فقد كانت تصفعني من وقت لآخر، وتتعمد دفعي بصورة مهينة، لسبب وبدون سبب. كانت تتعمد سؤالي عن أي شيء يخصّ الحياة في منزلي، كأن تسألني: “ماذا تسمّون ثمرة التين في بيتكم؟”، وعندما أجيب، تتعمد السخرية من إجابتي، فتنتهي الحصة لتواصل الفتيات الاستهزاء بي.
في حصة القرآن، كانت تتفادى أن تُسمّع الآيات المطلوبة لكل واحدة على حدة، فتطلب منا أن نقرأ بصورة جماعية لتراقب أفواهنا، ثم تستخرج منّا من لم تحفظ الآيات، وبالطبع، كنت أنا الطالبة المشتركة في العقوبة في كل حصص التسميع. فتتقدّم مني، ومن كتف المريول تمسكني بطرفي إصبعين من أصابعها، وكأنها تمسك بشيء مقرف، لتوجّهني للوقوف في ركن الفصل، ثم تحرمني من الفسحة، وهذا يعني ألا أشتري سندويتش الإفطار، وأبقى جائعة حتى نهاية اليوم الدراسي، وأنا طفلة هزيلة البنية.
أخبرت أمي، التي زارت المديرة لتشكو لها، لكن كانت النتيجة كارثية. توقف الضرب، لكنها تعمّدت تجاهلي بصورة مريعة فلا تنظر لي عندما أحاول المشاركة، ولا تجيب عن أسئلتي وكأني غير موجودة، أما النكات والتندّر على شكلي وإجاباتي ولبسي، فلم تتوقف.
بقيت معلمتي لأربعة مقررات طوال سنتين، فلك أن تتخيل كيف كانت أيامي وأنا أعاني من هذا البؤس، قد تراه أنت أمرا لا يذكر لعذابات الناس الحقيقية، لكن بالنسبة لطفلة بعالم محدود، كانت الحياة كلها لا تطاق. هذه المعلمة لم تحِل حياتي في المدرسة إلى جحيم فقط، بل صرت أخشاها حتى وأنا في منزلي، أحلم بها كل يوم، وأخاف حتى أن أصادفها خارج المدرسة.
المهم، عادت لي ذاكرة تلك الأيام، وقررت أن أبحث عنها، فبدأت بسؤال صديقاتي، ثم بتتبّع اسم العائلة، وتتبّعت تاريخ المدرسة الابتدائية، وزرت بعض المعلمات. وهكذا استمرت في الرحلة بإصرار لعامٍ متواصل، أسميته “عام البحث عن أبلا هند”. أخيرًا، عرفت أين تسكن، وأنها متقاعدة، واكتشفت أنها تكبرني تقريبًا بخمسة عشر عامًا. قررت أن ألتقي بها وأسألها: لماذا؟ لماذا فعلتِ كل ما فعلتِ؟ فأنا لا أذكر أني كنت تلميذة صعبة أو مشاغبة.
في اللقاء سألتها إن كانت تذكرني، فأجابت: “لا”. ثم استرسلت في الحديث عن نفسها. كانت شديدة الفخر، استخدمت مصطلح “معلمة أجيال” طيلة اللقاء. كان مجدها المتصوّر يملأ المكان، وكانت تظن أني بحثت عنها لأن “من علّمني حرفًا صرت له عبدًا”.
لكني ذكّرتها ببعض أفعالها. لم تغضب، ولم تتأثر، ولم تعتذر. وبالطبع لم تفاجئني بلادتها. لكن المفاجأة الحقيقية كانت عندما سألتني:
“هل أكملتِ تعليمك الجامعي؟”
أجبتها: “نعم، وأنا الآن استشارية جراحة عيون”.
فعلّقت:
“هذا لأني كنتُ معلمة صارمة، وصنعتُ منكِ إنسانة مثابرة.”
هي لم تنسني فقط، ولا تشعر بالذنب لما فعلته معي، بل نسبت نجاحي في حياتي لنفسها.
ترى، كم واحد منكم لديه في حياته ” أبلا هند”؟ وهل الأجحم الخفية التي نشعلها لبعضنا ستُنسى، وينجو أصحابها من أفعالهم؟ أم أن في الآخرة جحيم يليق بهم؟