يراعات الكتابة

قبل عشر سنوات كنت في مكالمة مع إياد الذي أخبرني أنه سيذهب لجزيرة هاواي ليتفرغ لكتابة روايته، وكان يكتب حينها روايته “إهانة غير ضرورية” بعد المكالمة كنت أقول في نفسي، الكتابة تأتي في أي مكان حتى لو في شارع بغداد، وهذا الشارع في جدة ويقسم حي الجامعة الشعبي إلى نصفين، بعد المكالمة ظهر منصور أبو حق كفكرة صغيرة، بدأت تتضخم لتشكل هذه الشخصية، منصور أبو حق إنسان بسيط يعمل حارس أمن ويسكن في عزبة في آخر شارع بغداد، ويحلم بتغيير العالم!

تجاهلت الفكرة في البداية لكنها بدت تلح بطريقة لم أعتد عليها، وأصبح منصور يعبر بدبابه السوزوكي في أزقة جمجمتي، بدأ يحضر وهو متأهب لحارسة المنشأة التي يعمل فيها، وهو يحطم قالب الثلج من أجل العرق لسهرة الخميس، وهو يعبس رؤوس الشيشة لعيال الحارة، وهو يخربش في دفاتره، وهو يقلب أحلامه التي سوف تغير العالم وهو في طريقه إلى الحمام المشترك في آخر الارتداد.

أفكر فيه قبل النوم وبعد النوم، وأثناء الأكل، هنا عرفت أن هناك كتابة قادمة، وبالفعل كتبت الرواية بشكل متواصل، لأن أحداثها تدافعت علي قبل الكتابة وأثناء الكتابة بشكل متتابع، ووفق السردية التي ظهرت في الرواية، وهو أمر مختلف تماما عن كتابتي السابقة، وعندم انتهيت من الكتابة لم أتردد أن أهدي الرواية لإياد الذي كان سببا في الكتابة.

نُشرت الرواية نهاية عام 2019 وكان حضورها الأول والأخير بمعرض جدة للكتاب، ولم تمر سوى خمسة أيام على نشر الرواية حتى قامت الرقابة بمصادرتها.

لم يزعجني ذلك فكما أن لدي أسبابي للكتابة فالرقابة لها أسبابها في المنع، الأهم من هذا أن على الكاتب أن يستمر في فعل الكتابة بعيدا عن كل ما قد يحدث لهذه الكتابة، أنا مؤمن بهذا أشد الإيمان، حتى لو لم يطبع هذا الكتاب، دور الكاتب وهذا ذكرته للأصدقاء كثيرا، أن دور الكاتب هو الكتابة فقط، وليس عليه أن يؤدي دورا آخر غير ذلك.

بعد مرور أكثر من خمس سنوات على نشر الرواية -والتي كان عمرها خمسة أيام فقط، والتي لم أفكر في إعادة طباعتها ولن أفكر، لأن ما حدث مع الرواية منسجم تماما مع ما حدث لبطلها فرضيت- التقيت أحدهم في معرض الكتاب بالرياض هذا العام، فأخبرني أنه مر بتجربة السجن قبل سنوات، وقد قبض عليه في منزله أثناء قراءته لرواية “عالم منصور” يقول عندما خرجت دخلت مكتبتي ووجدت الرواية في مكانها على المكتب، يقول فتحت الرواية في المكان الذي توقفت عنده وأكملتها.

 ما نكتبه ليس له علاقة بعدد النسخ والطبعات، والسنوات التي صمد فيها الكتاب على رفوف المكتبات ونقاط البيع، ما نكتبه له علاقة بأشياء أبعد من ذلك، كأن تكتب لتربت على كتف إنسان لا تعرفه يعيش حالة ما.

الكتابة أحيانا مثل اليراعات، كائنات صغيرة مهمتها أن تحمل الضوء في ليل البعض.

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 122