صدرت روايته الثانية قبل أشهر، بعد توقف دام أكثر من عقد منذ صدور روايته الأولى، قرأت الصفحات الأولى، بدت الجمل مرتبكة، مقتضبة، لا تتواءم مع حدث الرواية الجلل!
كلما حاولت أن “أمرق” أشعر بأن الرواية تدفعني للخروج من عوالمها، وهذا ما حدث، في النهاية لم أستطع الإكمال، وتركتها قبل الشروع في الفصل الثاني.
هل الأمر له علاقة بالانقطاع وأثره على حيوية السرد، ودربة الكتابة، صدقا لا أعرف.
في الكتابة، لا نستطيع الحديث عن التقنيات السردية فقط، لا نستطيع أن نتحدث عن المعرفة، والخبرة الحياتية فقط، لا نستطيع أن نتحدث عن اللغة السردية فقط، لا نستطيع أن نتحدث عن هذه الأمور دون الحديث عن شيء آخر يستيقظ في بداية الكتابة، ويتخلق حتى يكون هناك نبض وحياة، ومتعة، لذا فإن العكوف على تعلم التقنيات السردية لو استمر عقودا لن يضيف للكاتب إذا لم يمتلك ذلك السر، والذي لا يعرف الكاتب الذي نحبه كيف امتلكه، لكنه دون شك يعرف الطريق الذي سلكه أثناء البحث عنه.
نحن نعرف من يكتب بحرفية عالية، وتقنيات سردية مذهلة، يملك المعرفة، يجتهد السنوات ذوات العدد، من أجل أن يكتب شيئا جيدا، وقد يفعل ذلك لكنه لا يصل لسر الكتابة!
ذلك الشعور العميق الذي تشعر به، ذلك الصوت الذي يسري معك في انسجام هائل، وتناغم بديع، أثناء قراءة الكلمات، والجمل، حتى أثناء الصمت، والوقوف على علامات الترقيم، فاصلة، فاصلة، نقطة، نقطة.
وهذا السر وصفه موراكامي بالسحر في كتابه الذي ترجم حديثا “مهنتي هي الرواية” حيث يقول: “من أجل كتابة رواية جيدة ليس المكون الأساسي جودة المواد المستخدمة، لكنك تحتاج إلى السحر”.
وفي كتابها المؤلم “عزيزتي الحياة” تقول رايتشل كلارك، وهي ممرضة تحدثت في كتابها عن الحالات التي قابلتها أثناء الاحتضار والموت حيث تعمل في القسم التلطيفي، كانت في الكتاب تمر على مآسي الناس بشكل لاهث، حتى وصلت للفصل التي تحدثت فيه عن والدها، الذي أصيب بالسرطان، وطلب أن يمكث أيام احتضاره في بيته لترعاه زوجته وابنته، هنا حدث انعاش رئوي للكتابة، تسرب صوت متناغم منسجم مع السرد، إنها تختار كلماتها وجملها بعناية، إنها تؤثث الكتابة بالمشاهد، والتفاصيل، لقد نهضت روح الكاتبة في الوقت الذي تهمد فيه روح والدها، هنا حدث السحر في تلك الصفحات التي تحدثت فيها رايتشل عن أبيها.
الكتابة التي نريد ليست فرضا، ولا إجراء، ولا تحديا، ولا تباهيا، الكتابة التي نريد، هي أمر يحدث أثناء عيشنا مع الخفة، والبطء، والسذاجة، والغفلة، والصدق، والحب، والبذل، والتأمل، والعيش الدائم في دنيا الأدب، والفن، والجمال، في أثناء ذلك هل سنقبض على سرها؟
لا أدري!