الرواية بين ثراء الموروث وقتامة المستقبل

يتجدد دائما الحديث عن الأصالة كلما تطرقنا للرواية، نتجادل ونتشعب في النقاش لنصل في النهاية إلى نقطة اتفاق أن العمل الأصيل هو ابن بيئته، ودون أدنى شك يكون العمل أكثر أصالة كلما استند هذا العمل على الموروث بكافة أشكاله. 

سوف أبدأ بحكاية قبل أن ننطلق في الحديث عن محورنا هذا؛ قبل أكثر من عشر سنوات عندما كان والدي على قيد الحياة وكان يهتم اهتماما بالغا بالموروث، تحدثنا كثيرا عن أهم الأحداث التاريخية في منطقة الجنوب في وقت ما، وكان يتحدث معي عن بعض الوثائق حول شخصية عظيمة في تاريخ المنطقة، ومن رجالات الدولة السعودية الأولى، وهو بخروش بن علاس والذي عين أميرا من قبل الدولة السعودية الأولى لشجاعته وتفانيه في مقاومة النفوذ العثماني، كنا نتحدث ونحن ننظر في الوثائق القديمة عن ما يخص اللحظات الأخيرة من حياة بخروش، في ذلك الوقت كانت هناك رغبة مضمرة حول الكتابة عن هذه الشخصية، وبالفعل قمت بالقراءة والبحث وتتبع الأحداث، وحتى أكون أمينا، لقد سبقني أبي لهذا وجمع الكثير من المواد والمراجع والوثائق حول ذلك.

قرأت كل ما يتعلق ببخروش واتحاده العظيم مع طامي بن شعيب، والتحالف الكبير بينهما لمقاومة الوجود العثماني في المنطقة قرأت كل شيء وتفحصت الوثائق جيدا، لا أخفي عليكم أن هناك تدليس وقع في السردية المتداولة، كان سببا في التراجع عن الكتابة رغم أن الروائي له دور في الكشف أحيانا، لكني صرفت النظر، أقصد النظر عن الكتابة عن بخروش، لكن بعد سنوات وكان أبي قد رحل، كنت أتتبع حكاية امرأة أتت للحج قبل قرنين من الزمن، وصادف حضورها الوقت الذي انتصرت فيه المقاومة بقيادة بخروش وطامي بن شعيب على الأتراك في القنفذة، فبعد استرجاع الميناء صادف أن كان هناك أناس قد عقدوا العزم على الحج، فأمر بخروش بتجهيز قافلة لهم للذهاب لمكة، فذهبت تلك المرأة وأهلها إلى الحج وكانت برفقتها ابنتها الوحيدة، وصلوا مكة ووصل الطاعون قبلهم، فماتت تلك المرأة هي وعائلتها ولم يتبق سوى الفتاة صغيرة التي نجت من الوباء، فما كان من أحد أفراد القبيلة  والذي كان حاجا إلا أخذ الفتاة والتوجه بها إلى دياره، فأحسن تربيتها، وعندما كبرت زوجها وخلفت ابنة سمتها فاطمة، التي هي جدتي فاطمة زوجة جدي إبراهيم، هذه المرأة انحزت لها أكثر من انحيازي إلى بخروش!

هذا التاريخ العجيب، كان سببا في خلق شخصية روائية فرضت حضورها لأكتبها، فكان عطية بطل روايتي “الفيومي” هذا الإرث التاريخي وهذه التفاصيل والحيثيات ساهمت في تشكيل الشخصية التي فرضت نفسها، إن الموروث الذي ينتقل إلى الإنسان له انعكاسه العظيم والمؤثر في البناء والخلق، والأثر، والإبداع، والثراء الذي يشكل الهوية والأصالة وقوة الحضور، والاعتزاز والانتماء.

يتحدث أبي عند جدي إبراهيم أنه كان صاحب ماشية وكان من الذين جهزوا جيش التوحيد، ثم منحوا الخير بعد أن وحد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله البلاد.

إن هذه الترابط القديم يؤكد مدى العلاقة القوية بين القبائل والدولة من أيام الدولة السعودية الأولى، لقد مكثنا عقودا من الدهر ونحن بين المطرقة والسندان بين حكم شريف مكة والطغيان العثماني حتى توحدت هذه البلاد بفضل الله عز وجل ثم بفضل رجالات صمدوا وأمنوا بضرورة بناء هذا الوطن.

التاريخ والقصص والأساطير، والشعر، والأمثال، والعادات الاجتماعية، والطقوس هي المادة التي يعالجها الكاتب والروائي لينتج لنا حكاية، طبعا نعلم أن الروائي ليس مهمته التوثيق، بل مهمته الإبداع.

**

في البداية من الضروري أن أعترف أنني قروي رغم ولادتي في جدة لأن علم الاجتماع قد قرر أن الفلاح إذا انتقل إلى الحاضرة يبقى فلاحا وكذلك الأمر مع أبنائه وأحفاده، رغم الهوية المركبة وتغير الثقافة، واللهجة أحيانا، فأنا وأبنائي وغيرنا من القرويين لا زلنا نتعاطى مع الوجود بهذا الحس القروي، نحن ننتظر المطر في المدينة رغم أنه يعبث بها، لكننا ننتظر المطر، إنه حس القروي الذي ينتظر القطر ليزرع بلاده، لقد ولدت في جدة لكن الموروث كان حاضرا جدا، فالجدة تحكي، والأب يكتب، والشاعر يصدح، والديرة ليست بعيدة، واللهجة حاضرة، والتكتلات القبلية حاضرة.

في البيت كانت جدتي محافظة على لبسها التقليدي، الصدرة ذلك الثوب الأسود المطرز بالألوان، وتغطي شعرها بعمامة حمراء معمولة بالفضة، وأطرافها مخضبة بالحناء، ودائما تقص علينا الحكايات والقصائد، وما حدث في القرية، وكأنها لم تغب.

لقد سألت جدتي عن قلادة ظفار تلبسها، فذكرت أنها من جدي الذي كان يبيع التبغ، فكانت سببا في كتابة روايتي “آخر حقول التبغ”!

لك أن تتخيل حلية تلبسها جدتك وتكون سببا في كتابة رواية تستغرق منك كتابتها أكثر من عامين!

أفتش في دفاتر أبي وأجد حكايات وأساطير تشبه حكايات أخرى، فرمادان الذي عادته قبيلته ويقسم أنه سيقتل منهم مئة هو الشنفرى، وعلى سر جيله هو الخياط الشجاع الذي ادعى أنه قتل سبعة بضربة واحدة، قصص أخرى في العالم، وحكايات يتم تدويرها بين الشعوب والقبائل، والموروث يعيد صياغتها.

في الرواية تُرصد جميع العادات والتقاليد واللهجات والعلوم التي لم تدون فتوظف في الرواية، النظر في النجوم لمعرفة المواسم، وطقوس الزرع والحصاد، ونوع المحاصيل، ترصد أنواع الطيور التي تؤذي مثل الورقة التي تأكل النحل، والصليق الذي يخطف صغار الطير، وطيور العقاب التي تخطف صغار البهم، والصعوة التي تأكل المحاصيل.

لقد مات لي طير وأنا طفل فتأثرت جدا، فظلت جدتي تحكي لي لمدة أسبوع عن الطيور في القرية!

من علم الإنسان قبل قرن من الزمن آداب الصيد والقنص، والحرص على المحافظة على الثروة الحيوانية، ففي القرية لا نصيد وقت التزاوج نسميه وقت “النشيرة” -من الانتشار- لا نصيد الوبر وهو يأكل أو يشرب، لا نصيد الإناث، لا نسرف في الصيد، وعندما نصيد الوبر أو الحجل كيف نطبخه، وماهي أفضل طرق الطبخ وأنت في الجبل، أو إذا نزلت به البيت.

ما هي وسيلة التعبير في السابق، وكيف يحفظ الناس الأحداث، والمواقع، والحروب، لقد كان ذلك عبر الشعر، وتداول الحكايات في ذلك الوقت والتي وجدت طريقها فيما بعد إلى السرد عبر توظيفها بفن، وبالتالي حفظ الموروث وتناقله وتداوله، ودراسته وترجمته ونقله عبر الترجمة للعالم.

كيف يتناول السارد لحظات الحزن والفرح، الموت والأوبئة، والرقص، والطقوس البدائية، فطقس مثل الختان يكاد يكون متكررا بين القبائل قديما وبذات الطريقة، يختنون كبارا وفي حضور القبيلة، ويرمون من فوق رؤوسهم بالبنادق تشجيعا لهم، وقد يموت بعضهم في اليوم التالي، لقد فقدت أخا لي بسبب الختان، هناك نوعا من الختان في الجنوب يسمى الاستحداد، كان يتم فيه سلخ العانة بحجة أن يبقى الرجل نظيفا طوال حياته، لقد رصد كثير من الروائيين طقوس الختان، منهم يحيى امقاسم في روايته الرائعة “ساق الغراب” في ذلك المشهد الذي يقوم به حمود الخير بالهرب من القبيلة وختان نفسه بالفأس، وبما أننا تحدثنا عن هذه الرواية فهي تمتاز بشيء آخر وهو توظيف اللهجة في السرد، وهذا من وظائف الرواية فهي تحفظ اللهجات والتي لها أصل في كثير من مفرداتها في اللغة، وأنا من أنصار توظيف اللهجات في العمل الروائي وهي مدرسة حاضرة في العالم العربي وعمل بها كتاب كبار الكتاب في السرد أمثال الطيب صالح وإبراهيم أصلان وغيرهم، لقد اعتمدت في جميع أعمالي الحوار بالدارجة، ولقد تأملت في المفردات فوجدت حضورا للمفردات من المشرق والمغرب، مما يدل أن العالم في وقت من الأوقات كان منصهرا قبل الحدود “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”.

نحن الذين انتقلنا إلى المدن كان لنا التصاق كبير بالموروث، والمدن كان لها حضور في تطعيم الهوية بحيث نتج عن ذلك تمتعنا بهوية مركبة، وهذه الهوية أضافت بعض الثراء من جهة وبعض الارتباك من جهة أخرى، فلهجتنا هجينة، وتعاملنا مع الثقافة الأخرى أيا كانت يجعلنا في موقف بين بين، حتى مع الفنون الأخرى كالرقص، فأنت لا تدري هل تهتم بالعرضة أم المزمار، هل تتمنطق الجنبية في المناسبات، أم تحضر بالنبوت، هل تتعامل مع الضيوف بما تفرضه طقوس القبيلة فتحضره للبيت وتذبح له الخراف، أم تذهب به إلى إحدى المطاعم وتتناولون البرغر!

في ظني هذه الهوية وهذا الارتباك أتى في صالح السرد، خاصة أمام هذه الثنائية الثرية القرية/المدينة.

مما لا شك فيه أن الرواية هي ابنة المدينة كما ذكر لوكاش، فلم يقارف الإنسان الفنون إلا بعد أن ترك الحقل.

التجربة المحلية ثرية جدا في توظيف الموروث فعبده خال وعبدالعزيز مشري، ورجاء عالم ومحمود تراوري، أجادوا ذلك في رواياتهم ومن الجيل الذي بعدهم روائيون شباب رصدوا التحولات والتحورات للثقافة المحلية وكتبوها بجمال وذكاء.

أخيرا الرواية هي مثل أي فن من الفنون لها وقت ازدهار ووقت خفوت، ولا شك أن الموروث كان سببا في ازدهار الرواية في وقت ما، أما الخفوت فهو سنة كونية للأشياء، وأكون معكم صريحا أنني لست متفائلا بمستقبل الرواية خاصة في ظل هذه الثورة المعلوماتية الهائلة، ومع حضور ما يسمى بالذكاء الاصطناعي المرعب الذي باستطاعته أن يكتب لك رواية في ثلاثة أيام!

إن الناظر إلى الواقع ومآلاته في الوقت الراهن يظهر له أن الرواية ليست في أفضل أوقاتها!

هل الرواية بشكلها التقليدي ستندثر، بالنسبة لي نعم، هل سيكون الرهان على الأفكار الجديدة، والفنتازيا، والخيال العلمي، أقول أيضا لا للأسف.

 الذي أراه أن الرواية سيكون لها هامش صغير من الممكن المحافظ عليه، هامش يتكئ على التجريب، وكذلك العناية باليومي، مع حضور للرواية السيرية والتخيل الذاتي بقوة، لأن هذه الأشكال السردية يتفرد فيها الأسلوب الخاص للكاتب، الصوت الذي تشعر بصدقه، ولمعة الإنساني فيه، الرهان سيكون على هذه الأشكال، أما ما سوى ذلك فسوف يفتك به الوباء الرقمي القادم بصورة كارثية، وربما هذا جيد من حيث نقاء التجارب وجديتها، كون زمن المحاولات في ظني قد ولى وهذا أمر محزن بالنسبة لي ولغيري من الأجيال القادمة، لأنه لن يكون هناك أي مكان للمحاولات، سيكون الصوت النقي الخاص هو ما يبحث عنه القارئ الحديث، الذي يتلمس الحس الإنساني هنا وهناك علّه يقف على شعور إنساني صادق، صوت يأنس به لا يشبه صوت الآلة، هذا ما يجب أن نتمسك بحضوره والتشبث به، وهذا ما ينبغي تكريسه، والاحتفاء به في زمن أصبحت فيه الآلة والخوارزميات تشكل سلوك الناس وتوجههم.

الجيل القادم من الكتّاب والروائيين ستكون عليهم مسؤولية كبرى، إذ عليهم أن يصمدوا أمام التغيرات والتحديات، والثورة التقنية الهائلة، وأن يؤمنوا أن الكتابة الحقيقية هي فعل مقاومة أيضا.

الرياض-مهرجان الدرعية للرواية

20 نوفمبر 2025م

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 122