يوم جمعة أبي

ونحن في كيلو 10 كان يتوافد الناس يوم الجمعة من الحارات الأخرى على جامع أحمد خميس، فالشيخ كان يخطب خطبا قصيرة، ويملك صوتا جميلا، وبحكم قرب بيتنا من الجامع كان يزورنا بعض الجماعة قبل الجمعة، تجهز أمي الفطور والشاهي لهم، يأخذون العلوم والسوالف ثم يذهبون لصلاة الجمعة، كان أبي يرتدي الأبيض من الثياب ليوم الجمعة، يعتمر غترة العطار، ويغرس بعض الريحان بينها وبين العقال، ويتطيب بدهن العنبر، أو دهن جذور الخس، تلمع نظارته الذهبية وهو خارج من باب البيت برفقة الضيف، الذي ربما يعود معه، وقد يعود بآخرين.

كانت أمي تصنع لهم العصيدة والمرق، يأتون للصلة والسوالف والعلوم، وقد يأتي بعضهم لطلب العون والسلف، وكان أبي لا يردهم وإن لم يجد يعدهم أنه سوف يبحث لهم عند الناس لأنه لا يملك ما يطلبونه.

وأتذكر مرة ضاقت بأحدهم الدنيا ولم يعد له قدرة على قضاء الدين، فذهب أبي للدائن وأخبره أنه سوف يسدد عن الرجل، وكنت أشهد حضور ذلك الرجل نهاية كل شهر مع الراتب.

كان بيتنا مفتوحا للناس ولقضاء حوائجهم رغم عسر أبي وديونه، وكان الناس يذهبون له لقضاء حاجة وحل مشكلة وإصلاح بين الناس، وأتذكر مرة أن أحدهم جاء يشتكي من أخيه الذي سطا على صندقته وسرق حمامه!

وأتذكر في جمعة من الجمع خرجت من الجامع وشاهدت عراكا بين الكبار، كان بين عائلتين بالسلاح الأبيض، والدماء بدلت لون الثياب جراء الضرب والطعن، ولم يتدخل أحد من الناس لفك النزاع، وكنت مصدوما من هول ما رأيت حتى وقعت عيني على صديق لأبي أنهكته الجراح، فانطلقت إلى الجامع لأن أبي يمكث وقتا هناك بعد الصلاة، فأخبرته أن أصحابه يقتتلون، ففزع أبي من مكانه وخرج لهم في الوقت الذي أخرج أحدهم مسدسه من جيبه وكان ضخم البنية، فلزمه أبي من جذعه وكان الرجل هائجا وبحركة خفيفة أسقطه أبي قابضا على رقبته ويده التي تمسك المسدس وهو يردد: “علي يا علي دخيلك وانا أخوك تكفى… علي يا علي” رأى الناس والدي وتشجعوا لفك النزاع، أخذ أبي رفيقه الذي أنهته الجراح إلى منزله، حتى جاءت الحكومة، فأخذوا الشباب منهم، ووقف الرجال أمام الأبواب حتى تنازل الجميع.  

يوم الجمعة كان يوما حيويا في حياة أبي، وكان له مكانة مختلفة عن بقية الأيام، إنه اليوم الذي لم يكن مخصصا للقراءة سوى قراءة ورده بعد الفجر، وسورة الكهف في الجامع، غير ذلك يصرفه أبي للزيارة ولقاء الناس، والإصلاح بينهم، والوقوف معهم، ولم يكن أبي لوحده، لقد كان معه رجال صناديد يقفون معه في المدلهمات، والمصائب الكبرى، رجال حقيقيون، جيل ونعم، أصيل وعريق دقتهم الحياة والمصائب ولم يزدهم ذلك إلا رفعة ومكانة وبريقا بين الناس.

 أما الآن فالمشكى على الله.

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 111