أيام الضيوف

أول صورة أتذكرها في طفولتي صورة مجلسنا الصغير المليء بالضيوف. 

في صغري كانت تمر أيام العُسر على بيتنا، شيء يشبه الجفاف، سكون كئيب، وغبار يرقد فوق الزوالي والمراكي، وتصبح الوجوه شاحبة، فأقترب من أمي وأسألها عن الحالة فتقول: فقدنا الضيف!

أتذكر مرة بعد تقاعد أبي، توقف راتبه عن النزول بسبب إجراءات التقاعد، انهل علينا الضيوف بشكل هائل، وكان من محاسن التكتلات القبلية أن يكون هناك مطبخ للعزائم لأحد المعارف في الحارة، وكان المطبخ المجاور لنا لصديق أبي، وكان من عسير، كان لديه طباخ سوداني اسمه محمد، وكان الرجل لا يرد لنا طلبا في ذلك الظرف لعلمه بظروف أبي، وأتذكر بعد سنة عندما استلم والدي الحقوق ذهب إليه ونقده حقه كله.

مرت الأيام وتغيرت الدنيا، وبعد مرور ثلاثة عقود وأنا في أحد الأفراح جلسنا على العشاء وقلت لأقاربي: كأنه طبخ محمد السوداني، وعند خروجي وجدت محمد بالكبشة العتيقة فوق القدر الكبير، قد غاب في الدسم والعرق، لم يتغير كثيرا سوى يعض الشعيرات البيضاء في رأسه، كان ينثر الرز الأصفر فوق الصحون، ويكدس اللحم المندي، وينثر الزبيب، في مشهد مبارك أصيل. 

البيت الذي تعوّد على الضيوف بابه مفتوح، يستقبل الضيف بحفاوة، وفي حال غياب رب البيت، الطفل يرحب بالضيوف، وقد يتأخر صاحب البيت، فيذهب الطفل للحوش ليجر الخروف النجدي من أذنه، ويذهب به إلى المطبخ ويخبر الطباخ أنه يريده مفطحا.

قد يأت الأب وقد لا يأت ويصبح من الشرف الكبير أن يقلّط الطفل الضيوف.

الآن… لا نعرف بيوت بعضنا، “المقلّط” الذي خصص للضيوف أصبح مكانا للعبة الورقة والبلاستيشن، الضيف نذهب به إلى مطعم سوشي أو مطعم أمريكي، ثم نذهب بعد ذلك للمقهى لشرب الشيشة والشاهي الذي لا علاقة له بالشاهي، لقد تغير شكل الضيافة.

رغم ذلك هناك زمرة لا زالت حية، حافظت على شكل الضيافة كما ينبغي لها أن تكون، البيوت مشرعة الأبواب، يتدلى من فوق جدرانها معاليق الذبائح، ومنازيع اللحم، وفي أزواياها حفر الميفا، وأفواه التنانير، يتكوم القرض، وجذوع السلم في زوايا أحواشها، ويرحبون بالقادم في أي وقت وحين، زمرة لا زالت على سنن الأباء الكبار الذين كانوا يجيدون استقبال كل شيء.

والكرم ليس بتقديم الزر واللحم، وإنما بحسن الاستقبال، والبهجة التي تصحب الضيف، والشاهي الكايف الذي يحضّر له، والمساحة التي يحتاجها، والرغبات الصغيرة التي يقدرها.

هذا الفعل الإنساني النبيل أتمنى أن يبقى رغم الحداثة الجارفة، وتصعيد الفردانية المقيتة.

 الصمود الصمود من أجل الضيوف، والتراحيب التراحيب، والدسم الدسم، والعلوم العلوم، كل هذا حتى لا تصبح بيوتنا مجرد صناديق اسمنت.  

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 111