خلال الأربعة عقود الماضية عشت حياة كئيبة، بدأت بطفولة بائسة، ثم مراهقة مرتبكة، يليها مرحلة عديمة اللون، كان أبي متسلطا جدا، حتى بعد أن تزوجت، لقد كان يتصل على زوجتي كل مساء ليتأكد من عودتي من العمل، وقد رفض رفضا قاطعا أن أستخرج جواز سفر حتى بعد أن تزوجت، هو الذي يجوب كل العالم مع أصدقائه!
بطاقة الصراف الخاصة بي لدى أمي التي كانت تتعارك مع زوجتي نهاية كل شهر من أجل راتبي الشهري، في البيت كنت مهملا، أقوم بشأني كله.
أشقائي يطلبون مني توصيل أبناءهم للمدارس وإرجاعهم للبيت، أخي الكبير يطلب مني شراء أغراض لزوجته، أذهب بأخواتي للأسواق بينما أزواجهن على الأسرة، وفي المقاهي، هاتفي لا يتوقف عن الرنين من أجل أن أقدم خدمة لهذا وذاك، وأستجيب بسذاجة، وأقبل الاستغلال المريع دون حتى احتجاج داخلي صغير، حتى زملائي في العمل كانوا يستغلون طيبتي، وكنت أجلب لهم الإفطار كل يوم، أو أذهب لمراجعة مكاتب الاستقدام نيابة عنهم، كنت مستعبدا من قبل الجميع، والمصيبة لم أجد إنسانا ينبهني أن ما أفعله حماقة وغباء، لأن الناس لن تحرص على حل مشاكلك، الناس تريد أن تستغلك حتى النبض الأخير.
عشاء كنت أنهار على السرير من شدة الإعياء وأنام بعمق، دون تناول العشاء أحيانا، وكنت أستيقظ بعد منتصف الليل، وأتناول ما أجده في الثلاجة، ثم أصنع لي شايًا، وأدخن سيجارة بصمت، ثم أكتب في بعض الدفاتر بجنون عن الخير والحرية، والنبل، والأخلاق، والمعاني السامية، التي كنت لا أجدها في العالم، كنت أكتب للتنفيس، واستمر هذا الوضع لسنوات إلى أن أتى الوباء!
الوباء كان قد تفشى في العالم حتى وصل إلينا، العدوى أصبحت تنتشر بشكل سريع، وقتها كنت أعيش خواء مدمرا، كنت أشعر أني في القاع، وأشعر بعدم جدوى الحياة، لم يفزعني الموت، كانت لدي رغبة دفينة في مغادرة العالم، كنت أعجب من حرص الناس على الحياة، لقد كان الناس يرتدون الكمامات، ويعقمون أيدهم، وكنت بخلاف ذلك، أنظر إليهم، وأشمت بهم، وبحرصهم على العيش، ونتيجة إهمالي أصبت بالفايروس، شعرت بالأعراض بعد أسابيع، ذهبت لمكان الفحص، وبالفعل وصلتني رسالة بالموجب، فبعثت رسالة للجميع بأني مصاب، ثم أغلقت جوالي، وقصدت غرفة السطح، وأنا أشم رائحة الحمى، في اليوم الثاني كانت الحمى ترتفع أثناء الليل، لم أكن أستطع أن أقف لجلب الماء من شدة السخونة، بعد ذلك أعلنوا عن الحظر الشامل، زوجتي ذهبت لبيت أهلها وتركتني، تسللت للبيت، كنت أقول في نفسي إنه توقيت جيد للموت، أريد أن أتعفّن وأتفسّخ في الصالة، لم تكن هناك رغبة في تناول الطعام، واستمرت الحمى اللعينة لمدة أسبوع، تهدأ في النهار، وتهدّني في الليل، وكانت تأتي لحظات إفاقة وصفاء سريعتين، كنت أحدث نفسي بأمر واحد فقط، أنني لو نجوت لن أعود كسابق عهدي، وعاهدت الله أنني سأتغير، ثم تأتي الحمى من خلفي وتخنقني كمصارع، وتصرعني، بعد مرور عشرة أيام، وفي ليلة طويلة منهكة شعرت فيها أني سوف أموت، وكنت أردد يا الله دعني أتغير قبل أن أموت، ولن أعدك بأني سوف أكون إنسانا جيدا، لن أعدك بشيء، سوى أني أريد أن أتغير، بدأت ليلتها أرشح بغزارة، ثم لم أعد أشعر أين أنا، استيقظت قبيل الفجر ولا أدري كم نمت ليلة، ليلتان لا أدري، ذهبت للحمام، وأخذت أنظر لنفسي في المرآة، لقد فقدت من وزني الكثير، وغارت عيني، أشعر بالوهن والسكينة أيضا، أخذت حماما باردا، ثم أذن الفجر، وسمعته كأني لم أسمعه من قبل، بكيت لأن الله حقق لي أمنيتي، وبالتالي سوف أفي بعهدي له، ثم نمت واستيقظت بعد المغرب. فتحت جوالي، وشاهدت الرسائل، بعض الدعوات لي بالشفاء، وبعض المواعظ، صديق واحد فقط هو من استمر في بعث الرسائل ليطمئن، وزميلة لي في العمل بعثت أكثر من رسالة لتطمئن، بعد ذلك بعثت رسالة في قروب العائلة أني بخير، خرجت من القروب، وأغلقت الجوال، ومكثت في البيت كل فترة الحظر.
بعد الحظر بعثت رسالة لزوجتي أن تبقى في بيت أهلها، وعندما باشرت في عملي طلبت نقلي لجهة أخرى، واستخرجت جواز سفر لأول مرة، ثم خرجت من بيت العائلة، وأخذت شقة صغيرة، بعيدا عن الجميع، قررت أن أهتم بنفسي، كنت أريد أن أتعافى.
أتذكر في تلك الأيام عندما نزل راتبي الشهري، الذي لم يعد يتنازع عليه أحد، وذهبت لسيفورا في شارع التحلية، واشتريت عطرا من هناك، أتذكر أني خرجت من المحل وأنا أبكي، لقد كانت المرة الأولى التي أشتري فيها عطرا!
عندما فتحت السماء بعد الحظر، سافرت مع صديقي الوحيد لطنجة، ثم لمدريد، وتوجهنا بعد ذلك إلى باريس، وروما، ثم عدنا.
حينها ولدت من جديد، وتوقفت عن الكتابة في الدفاتر.
لم تتركنا في نهاية مفتوحة هذة المرة كانت نجاتك في تغيرك و نجاة سوداوية أيامنا في رواياتك التي تتركها على مصراعيها دون أمل واضح او حتى بؤس، ومع ذلك لازلت اسميها نجاتي
قارئتك المهووسة مؤخرًا سمراء الشرق