طالما قرعت أسماعنا نحن الذين تجاوزنا العقد الرابع نصيحة عدم الاستجابة للحنين، حتى لا نقع في هوة العمر، لكني أجد ذلك أمرا مستحيلا جدا، نحن صدقا نقتات على الحنين، نحيا به، نسترجعه، تؤثر فينا صوره، نتأمله، نكتب عنه.
أنا أقول لك، لا تقاوم الحنين، تماهى معه، لا مانع أن تعود وتسترجع الذكريات، تستجرها، لا تتردد في النظر في ألبوم الصور الذي تحتفظ به أمك، سوف ترى ألبوم صورك وتشعر بمزيج من المشاعر الغريبة.
لا مانع أن تشاهد الرسوم المتحركة، حلقات من جزيرة الكنز، وعدنان ولينا، وماوكلي، أن تسمع أغاني طلال، وخالد الشيخ، والرويشد، ورجاء بلمليح، وميادة، تشاهد ريلز لماجد عبدالله، والثنيان، وخالد مسعد، وزيدان، وماردونا، تعيد مشاهدة فيلم العراب، وكرامر ضد كرامر، وعمر المختار، وضد الحكومة، والكت كات، رجل المطر، والرقص مع الذئاب.
وتعود لقراءة خان الخليلي لنجيب محفوظ، وسلامة القس لعلي أحمد باكثير، والشيخ والبحر لهمنغواي، ورجال الأرض السوداء لمكسيم غوركي، والكونت دي مونت كريستو لدوماس.
تقلب كتب الجاحظ والتوحيدي وابن حزم، والسيوطي، والشاطبي، وتتذكر المكتبات التي ابتعت منها هذه الكتب، ولم تعد موجودة الآن.
كل شيء “أصلي” وأصيل، لا أظن أن هناك من يستطيع أن يشكك في جمال الصور الفورية، والدهشة من كاميرا الكوداك التحميض، وأغاني العيد، وأغنية طلال سلامة الوحيدة للمنتخب.
وشورما الفاكهة اللبنانية في حي الجامعة الشعبي، ومطعم الحرمين في النزلة اليمانية، وعيال الحارة الذين يلعبون حفاة، والحفاوة بجزمة التميم عندما نزلت الأسواق.
والرسائل المعطرة، والهوائي الذي يلتقط القناة المصرية، وقوارير الشطة الميئلة بالفيمتو، واليغمش، والدقة من عند الحجة.
وعطر بترا، وأوبن، وميربرتمان، وغترة العطار من عمارة الملكة، وسوق الخيمة، والشاهي العدني في سوق اليمنة.
ومسبح خزام، والقهوة التركية في مركز الكورنيش، وقهاوي الحارة، ومشروب كراش، ومجلة الرياضة والشباب، والعربي، ومجلة الشرق الأوسط كل أربعاء، وجهاز الفديو التوشيبا.
فول الأصنج في الكرنتينا، ومعصوب القرموشي في فرعه القديم، ورائحة الموكيت يوم العيد، والذهاب ليلة العيد لشراء سمن من باب مكة من أجل العيش، رائحة اللبن الذي كانت أمي تخمره قبل العيد بليلة، وتضع معه ريحان الجارة، والألبوم الأول لأحلام، وفنان ظهر لنا في بداية التسعينات وسيم وأنيق، وكل الشباب كانوا يحاولون محاكاة طريقته في التشخيص، والذي حاول دفعنا لمواجهة حبيباتنا بـ “صارحيني”.
الحجة بركة التي بنى لها عم سعيد غرفة لتعيش آخر أيامها جارة لنا، حليب مطرة بالزنجبيل، صيد الجنادب في الملعب، الهزة الأرضية في الكورنيش القديم عام ١٩٨٥م وسببها ضخ الماء في الهواء ليرتفع ٣٥٠ مترا عبر مبخرة صغيرة لتصبح بعد ذلك رمزا للمدينة.
أول تلفزيون سانيو ملون يدخل البيت، ظهور القناة الثانية، دخول الشيشة لحوش بيتنا ونظرة أمي لها وكأنها ضرة، الضرة ممشوقة القوام والتي تلمع في كل أوقاتها لم يمكث حضورها طويلا في الحوش، فقد ذهبت إلى مكان آخر، والبيت الشعبي، وحرب الخليج، والهاتف الثابت، والرديوهات، والمكنسة الكهربائية التي احتفت بها أمي كثيرا، والذهاب للقرطاسية قبل السنة الدراسية، والقواميس، والهندسة، وأقلام الرصاص، ورائحتها، وصوت حسين النجار قبل الإفطار في رمضان، والفوازير، وعلي الطنطاوي، الفرح العميم عندما تنجب جارة لنا طفلا أو طفلة، والليالي الطويلة في التحلية من أجل الحصول على صهريج مياه، ثم النظر للمدينة من فوق، والتمايل معه حتى تصل إلى بيتك، والنوم وأنت متعب دون أن تستحم.
هذه الصور والذكريات تعبر جمجمتك مثل صوت خط الهاتف عندنا يريد الاتصال بالإنترنت عام ٢٠٠٠م يخرج نغمات لتنهال بعدها الصور القادمة من العالم الآخر، صور، وأصوات، وأناس، وحكايات، وجدالات، وعوالم موازية، تهطل عليك دون توقف في رغبة لمحو تلك الذاكرة وكأنك في مشهد من فيلم “إشراقة أبدية لعقل طاهر”.
عزيزي احتضن حنينك، وقبله كما تريد، واربت عليه، وصنه مثل كنز تخشى عليه من الفناء.
عش حياتك أو ما تبقى منها سعيداً حتى تكون لك ذكريات جديدة تضاف لما سردته، فربما تخبر أحفادك بأنه كان هناك مدونة كتبت فيها الكثير و كنت تستخدم لوحة مفاتيح بدل التسجيل الصوتي الذي يحول ما تقوله إلى كتابة دون المرور بالذكاء الإصطناعي