القائمة

وداعا سكارميتا

أتذكر قبل عشر سنوات كنت منقطعا عن القراءة والكتابة بسبب مرض أبي، ومرافقتي له، في تلك الأيام تواصل معي الصديق شوقي العنيزي، من أجل كتابة تقديم لرواية سكارميتا “عرس الشاعر” كنت أظنه يمزح في البداية -ومن أنا حتى أقدم قامة كبيرة مثل سكارميتا- لكن شوقي وبدهائه أخبرني أنني لا أقدمه، بل أقدم الرواية للقارئ العربي!

كنت وقتها في ممر الطوارئ في مستشفى الملك فهد للقوات المسلحة، في ليلة شاقة لا تنسى، أقف في الممر البارد، في ساعة متأخرة من الكرب الذي يمر به أبي.

ثم بدأت في كتابة هذا التقديم، وأنا أقطع الممر البارد ذهابا وإيابا لأطوي الساعات الثقيلة، من أجل القارئ العربي الذي يمقت مقدمات الروايات، وقبل ذلك من أجل العزيز شوقي الذي لا أستطيع أن أرده، ومن أجل الأدب، ومن أجل سكارميتا الذي أمتعنا كثيرا، سكارميتا الذي رحل بالأمس بعد أن فرّغه الزهايمر من الكلمات التي استهلكها من أجلنا وهو يكتب لنا ذلك السرد الفاتن.

وداعا سكارميتا. 

تقديم

لا تقلق عزيزي القارئ فأنا مثلك أكره المقدمات وأتجاوزها كثيرا.

ما أكتبه هنا هو بمثابة رفع القبعة عاليا احتفاء بهذه الرواية، بمثابة رفع الإبهام عندما يسأل أحدهم عن طعام أعجبه، بمثابة ترنم لمقطع موسيقي، أو رقصة وجد صوفية.

هذه المقدمة هي مسايرة لك إلى ما قبل بوابة سكارميتا التي سوف تنقلك إلى عالم آخر.

أتذكر عندما قرأت سكارميتا أول مرة، كنت في غرفة خالية، أستطاع سكارميتا أن يصنع منها سيركا لتهريجي، فقد كنت أضحك تارة، وأحزن تارة، أشيد بسرده، وألعنه بلا توقف!

عندما يقول سكارميتا في بداية هذه الرواية “كان يا ما كان..” فأنت أمام حكاية ثرية، وتفاصيل غنية، وسرد متجاوز، إنه عراب السرد التشيلي بلا منازع.

هذا المجنون الآسر الذي بعث فينا النشوة بروايته المذهلة “ساعي بريد نيرودا” هو الوحيد الذي يجعلني أتوقف بعد قراءة أي عمل له عن أي قراءة أخرى، إنه قادر أن يسرد حد الشعور بالتخمة، وفي هذه الرواية يجعل من جزيرة “جيما” المعزولة عن العالم، البدائية بالنسبة لأقوام، أن يجعل منها جزيرة حية، ترتعش، سكارميتا قادر أن يشعرك بتلك الحياة، أن يرهق حواسك بلذة، أن يحملك من واقعك إلى عوالم تدغدغ الإنسان المحب للحياة فيك.

في هذه الرواية تشعر بطعم الدم، والنبيذ، وزيت الزيتون، والسمك المشوي، طعم الخيبة، وألم الهزيمة، ويقين النهايات.

رواية تشم منها زفر البحر، ونتانة طحالبه البشعة، وعفونة المراكب القديمة.

رواية تشنف سمعك بالسخرية والبذاءات، والشعر، وصهيل الثورات، والأغنيات.

تهزك بمشاهد الذبح، والرقص، والمجون، والسروايل المتسخة بالشراب ووعثاء الحياة..

شخصيات الرواية كيانات متفردة مستقلة، أصواتها متنوعة، كل شخصية يدعي البطولة والهزيمة أيضا، جيرنيمو، التاجر النزق، صاحب العقود الخمسة الباحث عن الاستقرار، الحالم بحياة أجمل.

باولا الغنية المتعجرفة، الراغبة في قيادة كل شيء، والمنافحة عن تاريخ الأسرة العريقة. 

آليا الفتاة الجميلة الساذجة، التي قد تتنازل عن أي شيء من أجل المال.

رينو المتمرد، الثائر الصاخب، المهووس بالانتقام والقتل، والتغني بمجد عائلة. 

استيبان الشاعر الحالم، الذي أوقف حياته للحب والشعر والجمال، الذي يجد نفسه متورط بقدر غيره.

المكان الجزيرة النائية الثائرة، المعزولة، البحر الضاري، السفينة المارقة التي تحمل الأماني الراسية.

لغة الرواية باذخة تطربك كعادة أنطونيو سكارميتا، لغة مطعمة بالشعر والتهكم والسخرية، والتشبيهات، والاستعارات البارعة، والنكتة التي قد تقطعك عن القراءة أحيانا.

 لغة سلسة، متدفقة، لذيذة، أشبه ما تكون ببساط ريح ينقلك بترف وحبور ونشوة حتى النهاية.
هذه الرواية التشيلة علامة في أدب أمريكا الجنوبية، ومن أهم روايات أنطونيو سكارميتا، بترجمة البارع صالح علماني، تصدر ضمن سلسلة ستثري القارئ العربي، بصف وإخراج جميل، وها أنا أقدمها للقارئ العربي النهم، أقدمها لا بصفتي كاتبا عربيا، ولكن بصفتي قارئا مفتونا بالأدب والفن وثقافات الشعوب.

لن أقول قراءة ممتعة؛ فهذا ستلمسه من خلال الصفحات الأولى من هذه الرواية الحيّة.

طاهر الزهراني

جدة

8 ديسمبر 2014م

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني كاتب، وروائي، ومحرر أدبي.

المقالات: 39

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *