الأمر يعود لأكتوبر عام 2022م بعد إعلان فوزها بجائزة نوبل، وصادف أن كنت هناك مشاركا في أسبوع الرواية العالمي باليونيسكو بباريس، وبما أني أعرف التفاصيل، تفاصيل الذهاب والعودة، والسوبرماركت الذي تذهب إليه، وذلك بعد قراءة كتابها “انظر إلى الأضواء يا حبيبي” الذي دونت فيه يومياتها وهي ذاهبة للتسوق.
قلت لماذا لا أذهب؟ لن أكون متربصا، سوف أجلس في المقهى الذي على قارعة الطريق،صحيح أنها الآن في الثمانين من عمرها، لكن من الضروري البحث عن مخرج أخلاقي للأمر.
في البداية عرفتها من روايتها “الحدث” وأصبحت أتتبع كل نتاجها، هناك بعض الامتنان لهذه المرأة التي أخبرتني بنوع من التفصيل والإيضاح، أشياء حول الحب، والغيرة، والرغبة، والتملك، والنزوة، وشكل الحضور، لقد أخذت بيدي وأنا في العشرين قائلة سوف أخبرك كيف تجري الأمور يا صغيري!
لم يكن الانتقال إلى سيرجي بونتواز صعبا، أخذت أوبر وذهبت إلى هناك، جلست في المقهى طلبت هوت شوكلت لمقاومة برد أكتوبر، رغم أن الناس مستمتعة ببعض الدفء أنا الذي لم أعتد على درجة حرارة أقل من 30 درجة، جلبت لي الفتاة الشوكلاتة الثقيلة في كوب، والحليب في كوب آخر، بخلاف ما اعتدنا عليه، معي نسخة من كتاب بوبان باللغة الفرنسية، وكنت أترجم النصوص عبر تطبيق قوقل للترجمة، بوبان الذي يرقد الآن على الفراش الأبيض، والذي شعرت أنه لن يمكث كثيرا بعدها – وفعلا مات بوبان بعد عودتي بأسابيع- لقد وجدت كتبه في كل مكان، بخلافها، هي التي أبدت بعض الاستياء كون أغلب الأماكن لا تروج إلا للكتب العشرة الأكثر مبيعا، وبلا شك كتبها ليست في القائمة، لكن الآن الوضع أصبح مختلفا.
كل ما كتبته هو من قبيل التخييل الذاتي، أو السيري، لديها قدرة على تحويل العادي إلى فن، عندنا إذا قرأ الناس رواية جيدة، وصمت بالسيرة الذاتية كنوع من المصادرة، في مكان آخر الأمر بخلاف ذلك، لا يهم ما نوع الكتابة، الذي يهم هو كيف كان التناول؟!
وفي خضم الحديث حول قضية هل على الكاتب أن يكتب ما يعرفه أو يكتب عما لا يعرفه، تأتي هي وتكتب حول أمر واحد تعرفه وعاشته إنه “الحدث” كل أعمالها تدور حول فلك الحدث، مع بعض المذكرات حول اليومي.
وأنا أنظر في المارة وأفكر فيها، من المستحيل أن تقطع الشارع وحدها، خاصة بعد الفوز، لن تخرج من منزلها إلى أن يهدأ صخب الفوز، على كل حال ليس لدي ما أفعله سوى تزجية الوقت في هذا المقهى، وقراءة بوبان، والتواصل مع الأصدقاء عبر الاسنابشات، التطبيق الذي لا أستخدمه سوى في السفر، من أجل الاتصال بالعائلة، وأبعث بالفلاتر أثناء الحديث مع الصغير، وأنا في باريس ربما من أكثر الأشياء شاهدتها أثناء الزيارة هو حضور الأمير الصغير في كل مكان، في أماكن بيع الهدايا، وعلى واجهات المحال والمكتبات، الأمير الصغير، القصة التي تخترقك ولكن لا تعرف ما السبب، الصبي الصغير الذي يزور الكواكب، ربما ذلك له علاقة بكاتبها أيضا، هل هناك رمز، هل هو سحر أنطوان دو سانت إكزوبيري، هل هي البساطة أم البراءة أم الغموض، ربما الأمر له علاقة بالثعلب، فنحن عائلة لها تاريخ كبير ومشرف مع الثعالب.
ربما تلك النهاية الغامضة التي أعطت للكتاب والكاتب بعدا أسطوريا، لقد أعطاني ايريك ايمانويل شميت بعدا هائلا في كتابه “انتقام الغفران” عندما كتب عن النهاية العظيمة.
أحرك بقايا الشوكلاتة الثقيلة في الكوب، ومن بعيد أرى امرأة قادمة تسير ببطء، ترتدي معطفا خاكي اللون، وحول رقبتها وشاح أحمر، يطير شعرها الخفيف مع الهواء، وتدس يديها في جيوب المعطف، تشق الطريق نحوي، وتتجاوزني دون أي تحية أو حتى إيماءة صغيرة!
