عندما سمع بوب ديلان صوت وودي قوثري لأول مرة سقط في هوة سحيقة، هناك “مرساة ثقيلة هوت في مياه الشاطئ” أصبح ديلان ينظر لكل محاولاته على أنها مجرد أشياء صغيرة عديمة الجدوى، لقد أربك مساره، ليذهب بعد ذلك إلى حانة، ويجد أحدهم يغني بشكل فاتن، دون أن يبذل طاقة كبيرة، وهناك انسجام كبير بين عزفه وأدائه، الأمر لم يكن بحاجة لتوتر، ولا محاولات مفعمة بالمشاعر، ولا رغبة عارمة لكي يرضي أحدا ما، أن تكون مطربا “شعبيا” أصيلا هو أمر في غاية الصعوبة، لكن قد يكون الحل، والمخرج في الجوار!
أو كما يقول ديلان: “الأمر يشبه أن تكون في الظلام ثم يقوم أحدهم بفتح مقبس الكهرباء”!
الرغبات والمشاعر المتطرفة تخنق رغباتنا، وأحلامنا، ومشاريعنا، قبل سنوات تعرفت على بعض الطلاب من كلية الهندسة، كانوا يطبقون في الجهة التي أعمل بها، لا أبالغ عندما أقول يرعبني هذا الاعتداد بالنفس لدى الجيل الجديد، الحماس المرعب، المعرفة الهائلة، سن المناجل مبكرا من أجل الحصاد، والأمر يحدث في عالم الكتابة، هذه الرغبة الجامحة داخل الكتابة وخارجها، محاولة استيعاب جميع تقنيات الكتابة، الهوس المربك بالتجريب، اللهاث خلف الجوائز، وعدد الطبعات، ويبلغ الابتذال مبلغه عندما يتحول الكاتب إلى مسوّق لكتبه في معارض الكتب!
ربما قصة بوكوفسكي جيدة في هذا السياق، الرجل الذي أمضى كل حياته من أجل أن يصبح كاتبا، أكثر من ثلاثين سنة من الكتابة الفاشلة، وعندما يتجاوز الخمسين ويفقد الأمل، يأتي إليه محرر من دار نشر صغيرة، محرر لم يعده بمال ولا مبيعات، بل عليه أن يترك وظيفته في مكتب البريد ليكتب، وربما يجوع أثناء ذلك، قال بوكوفسكي: “لقد قررت أن أتضور جوعا” ثم كتب روايته “مكتب البريد” في ثلاثة أسابيع، وعندما اكتملت، نظر في صفحة الاهداء، وكتب “إلى لا أحد” ثم حدث ما لم يكن في الحسبان!