القائمة

كان أبي

بسيط جدا، يلبس ما وجده من الثياب، أعطيه ثيابي ويلبسها، ينتعل أي حذاء، ولا يغير الحذاء حتى يستهلكه، لا أذكر أنه كوى ملابسه عند المكوجي، يكتفي بما تفعله أمي تجاه الثياب، يعتمر غترة العطار، ولديه نظارة ذهبية استحال إطارها إلى الفضي.

في صغري كنت أتذكر أنه كان يحمل زجاجة صغيرة لكلونيا “بترا” وعندما اختفت من السوق استبدلها بدهن عروق الخس.

كان أبي يجلس في مجلسنا الصغير، ببابه الخشبي المشقور من المنتصف ينتظر الضيوف، جالسا على زولية حمراء وطنية سحلت بسبب الضيوف والشمس، قبل أن أدخل المجلس أضع حذائي النظيف بجوار حذائه الشرقي الذي تظهر عليه آثار دمنة من حلقة الغنم، أمامه براد الشاهي الأصفر ودلة السيف النحاسية وتمر صفري، ويقلب بين يديه كتاب لعاتق البلادي ليتأكد من معلومة تتعلق بقبيلة هذيل، ثم يأتيه أثناء ذلك بعض أعيان الحارة لمشورته في قضية تتعلق بحل مشكلة ما، أو إصلاح بين الناس.

لا يحب البهرجة، ولا البذخ، ولا التأنق، كان لديه موقف أخلاقي من المتأنقين جدا.

في سنواته الأخيرة استجاب مرة لأهل الحارة بعد أن أجرى عملية جراحية، وقاموا بعمل احتفال جميل نظموا فيه قصائد المدح الشعبي والفصيح، ثم أجلسوه على المفطحات الندية، وخرج بنظرة امتنان كبيرة، لا تميز بين لمعة نظارته ودمعته، وعاد للبيت لم تؤثر فيه القصائد.

المناسبة الأخرى لم أكن معه، ذهب إلى “لقط” فاستقبلوه بضجيج البنادق، وسحب المفتل، برفقة صديقه يحيى الساحلي والكرام الذين رضعوا الكرم مع اللبن، وعاد أبي كما هو بذات الثوب الباهت، وغترة العطار التي تغير لونها للأصفر بعد الغسلة الأولى.

كان هادئا، ومتوجسا من الحياة، وعلى استعداد دائم لمقابلة الأسوأ، هو وجيله العظيم كان لا يفرحون كثيرا، ويخفون أحزانهم بنبل كبير، وكانوا يستقبلون المصائب كما يستقبلون الضيوف.

أفتقده كثيرا في هذه الأيام الباردة، ولا أدري هل هذا له علاقة بما يسمى باكتئاب الشتاء، لكنه يحضر بشكل هائل مع ضجيج الأحفاد، وعندما يحضر لبيتنا أحبابه ولا يكون هناك لاستقبالهم، وعندما يكتنف البيت السكون آخر الليل، ولا يسمع سوى حفيف الشجر.

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني كاتب، وروائي، ومحرر أدبي.

المقالات: 56

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *