إنها زيارتي الثانية لباريس، لذا راعيت مسألة فائض الوقت هذه المرة، فكوني زرت أغلب معالمها في المرة الماضية فالأمر مختلف الآن، سوف تكون هذه الرحلة أقرب لليومي؛ الذهاب للمقهى المجاور، القراءة، الكتابة، المشي، ومقابلة صديق في المساء، بالإضافة لاجتماعات المشروع الذي قدمت من أجله.
عادتي قبل السفر بيوم في الغالب أحرص على الجلوس في البيت، هكذا أرغب في الراحة وأبتعد عن المنغصات قدر الإمكان.
لكن ذلك اليوم حدث وخرجت لأمرين؛ الأول مشاهدة فيلم “القيد” ليكون أول فيلم سعودي أشاهده في السينما، والأمر الآخر رغبتي في شراء بعض قمصان الكتان، وهذا يعود ربما بسبب موجة الحر المرعبة التي مرت على جدة الأسبوع الماضي، لقد وصلت درجة الحرارة إلى ٤٨ درجة لقد صهرت الحرارة وجهي خلال ذلك الأسبوع، لذا قررت شراء قمصان الكتان، فالصيف لا يريد الرحيل، وأيضا شاهدت الطقس في باريس، وبالفعل لا زال الصيف قائما، تبا للصيف.
اشتريت قميص كتان وحيد بسعر غال، وفي لحظة شعرت أنه لا يكفي فاشتريت آخرين رخيصين نسبيا، ثم ذهبت إلى المغسلة مباشرة بعد ذلك، فأخبرني العامل أنه بعد ساعتين سوف تكون جاهزة، مررته في نفس التوقيت، وبمجرد أنه رأني سألني سؤلا مربكا: هل قمصانك هذه جديدة؟ هناك قميص مخروم!
فتضرعت لله أن لا يكون القميص الغالي، لكن الاختبار فرض نفسه بقوة لقد كان اختبارا مضحكا، أنا الذي أكرس لنفسي وللناس أنني إنسان بسيط، وأذكّر نفسي دائما يا طاهر لا تدّعي، لا تشتري أشياء فوق مستواك المعيشي، أنت بسيط منتمي للطبقة الكادحة، ولديك حس اشتراكي، يا طاهر اسمع الكلام، لكن طاهر لم يسمع الكلام وتشبه بالمتأنقين والمتعطرين جدا، وخُرق قميصه الغالي وحدث ما كان يتوخاه قبل سفره بيوم!
لقد خُرم القميص الكتان الماركة الهولندية المذهلة بشكل ساخر، لقد كان القميص يمد لسانه لي عبر الخرم، مثله من كل الأشياء الغالية القليلة التي تتلف بمجرد أن أحصل عليها، مثل ثوبي القطن الغالي الذي فصلته مرة عند خياط عريق، فتشبث بأكرة الباب فتمزق، مثل الجزمة الاديداس التي اشتريتها قبل سنوات بمبلغ كبير لأنها سوف تحل مشاكل قدمي لكنها لم تفعل.
لقد حدث شيء قبل الرحلة بيوم، اليوم الذي أتحفظ فيه ولا أخرج!
وأنا أرتب الحقيبة قبل النوم قررت أن أضع القميص المخروم في الحقيبة.
فجرا ارتديت القميص الرخيص وذهبت للمطار، جاورني شاب لطيف من تبوك يقيم في باريس، تحدثنا كثيرا حتى وصلنا، وعند النزول في المطار رافقني أثناء الإجراءات، في النهاية ودعته لم أسأله عن اسمه ولم يسأل.
وصلت الحي الرابع عشر تحديدا وأنا أعاني من التهاب في الحلق وسخونة، نزلت فندقي “فوكو مونبرناس” أخذت قرصي سولبادين وحبة لورانيز، ثم عملت بنصائح الأصدقاء، إغلاق المكيف، وطلب الحرارة تحت البطنيات ثم غرقت في عرقي لمدة تسع ساعات، لأستيقظ صباحا انسانا آخر.
هناك شعور في باريس لا تشعر به في أي مدينة أخرى -أتحدث عن نفسي طبعا- إنه شعور أنك تعيش في مدينتك بشكل آخر.
كان أول مشوار صباحي لمحل خياطة مختص في رتق الملابس، ففي باريس لا زالت تعيش المهن المندثرة، اخترت المحل الذي كانت أغلب مراجعاته سلبية بسبب أخلاق الخياط، فذهبت إليه فأنا ليس لي علاقة بأخلاق الخياط، أنا لا أريد أن أزوجه ابنتي -طبعا كوني رزقت ابنة مؤخرا أصبحت أستعمل هذا التعليل كثيرا- ذهبت له وكان لطيفا جدا -رغم تقطيبة الجبين- لدرجة أنه استوعب عدم معرفتي للفرنسية فأخذ بيدي العجوز الأبيض، وقال تعال يا بني سوف أقوم برتق قميصك بهذه الطريقة البدائية. موافق؟
نعم موافق أيها البغيض في العالم الافتراضي، الجميل في الواقع.
ذهبت لمقبرة مونبرناس الشهيرة بينما يرتق العجوز قميصي الثمين، هناك حيث بول سارتر وسيمون وبيكيت وبودلير وموباسان.
وبعد جولة دامت طويلا هناك، مررت على العجوز وأخذت قميصي الذي لم أعد مهتما به بعد زيارة المقبرة.
مررت على مكتبة صغيرة وسألت عن كتاب كريستيان بوبان وهو الكتاب الذي كتبه في أيامه الأخيرة عنوانه: “الهمس” اشتريت نسخة منه، ثم ذهبت للبقالة واشتريت بعض الأغراض، ومررت الصيدلية أيضا، وكذلك ذهبت للمغسلة لأغسل بعض الملابس، وكانت أول تجربة لي في حياتي، لم أستطع أن أتعامل عن الغسالات وانتظرت حتى وصلت عجوز تحمل بقشة كبيرة من الملابس، فقذفت بها داخل الغسالة ثم ذهبت إلى جهاز في الغرفة، همزت على رقم الغسالة، ومررت البطاقة البنكية، واشتغلت الغسالة، وفعلت مثلها، نظرت في وقت الانتهاء كان يستغرق الغسيل ساعة إلا ربعا!
جلست العجوز وأخرجت كتابها وجلست تقرأ، خرجت لمطعم مجاور وتغديت هناك؛ صدر دجاج مقلي بالزبدة مع إكليل الجبل، وبطاطس مشوية صغيرة بزيت الزيتون.
انتهيت من الغذاء ونظرت في البشر والبشريات، وتوجهت للمغسلة، ووجدت بقي عليها خمس دقائق لتخرج بينما العجوز غارقة في كتابها.
نظرت في الطلاب وقد خرجوا من مدارسهم، وكان الطقس قد تخلى عن صرامته قليلا وحل البرد، أخرجت الملابس، ثم ذهبت للفندق لأضع أغراضي، لأذهب بعد ذلك لألتقي بأحد الأصدقاء بالمقهى المجاور.