القائمة

قطارات هرابال

نعود للحديث عن السرد التشيكي بعد أن تحدثت عنه في تدوينة تشكوسولفاكيا تعود على الخريطة، وأقول قليلة هي الروايات التي تجعلنا نعود إليها مرة أخرى، وفي كل مرة نخرج من القراءة الثانية، أو الثالثة، أو العاشرة، بدهشة متجددة، وهذا ما حدث معي في رواية “قطارات تحت الحراسة المشددة” للروائي التشيكي بوهوميل هرابال، فقد قرأت هذه الرواية مرة أخرى، هذه الرواية الصغيرة التي كتبها صاحبها بعد تجربة حياتية غزيرة متنقلا بين المهن المختلفة -بعد أن نال الدكتوراه في القانون- فمن عامل في سكك الحديد ومصانع الصلب، إلى كومبارس في المسارح، إنها الخلطة المدهشة للحياة والسرد.

هرابال يفتنك منذ البدء بذلك الاختزال البديع للحياة والصور، بلغة مرحة ساخرة، أقرب إلى الحكاية منها إلى السرد، تنسج الصور المعبرة بذكاء وبراعة، بلمسات لغوية طيّعة ووافرة، حيث شرع في تأطير الرواية بمآسي الحرب، حديثه عن الطائرة الألمانية التي سقطت في المدينة، وعن جفن الجناح الذي أخذ يبعثر السكان بذعر وسخرية، ثم يأسرنا بطل الرواية هرما بالحديث عن تاريخ عائلته العامر بالمفاجآت الساخرة، ابتداء من حياة والد جده طبال الحروب، إلى جده الذي واجه الدبابات الألمانية بقوة فكره، خاتما بوالده الذي انتهى به المطاف جامعًا للخردة، جامعًا لتفاصيل الخراب العميم.

الحدث التاريخي هو أن تشيك ترزح تحت الاحتلال النازي، أما حدث الرواية فكان يدور حول “هوبيكا” العامل الذي قضى ليلة حبّر فيها مؤخرة عاملة التلغراف بأختام المحطة، حيث جرى التحقيق حول الحادثة، والتي شارك فيه رئيس المقاطعة، وقد وافق وقت تلك الحادثة مباشرة الفتى هرما المتدرب في سكة الحديد بعد قضاء إجازة مرضية بسبب إقدامه على الانتحار لأنه هزم في أول مضاجعة له في الحياة!

تطفو الأحداث الأكثر سخفا وتفاهة، وتشغل السلطات، فيقوم رئيس المقاطعة بإلقاء موعظة لعمال المحطة الذين لم يشكروا الله أن منحهم أفضل قيادة وأفضل عرق على وجه الأرض، إنهم لم يدركوا عظيم هذا الفضل لأنهم ليسوا سوى شرذمة تعيسة لا تستحق العيش: من هم التشيكيون؟

في ظل هذه الأحداث الساخرة يأتي التعاقد النضالي بين “هوبيكا” الذي حبر مؤخرة عاملة التلغراف، وبين “هرما” الذي لم ينتصر في مضاجعته الأولى، على أن يفجرا القطار الألماني المحمل بالأسلحة والقنابل والمتجه صوب خط القتال، ليعرف رئيس المقاطعة من هم التشيكيون!

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني كاتب، وروائي، ومحرر أدبي.

المقالات: 31

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *