القائمة

قدر الحلم والمهنة والكتابة

كان أبي يتمنى أن أكون قاضيا، وكانت أمي تتمنى أن أكون جنديا بعد المتوسطة!

أما أنا فمن وقت مبكر جدا، كان حلمي أن أكون معلم رسم!

هذا الحلم هو ما جعلني أكمل دراستي لأن أغلب زملائي وأقاربي كانوا يكتفون بالمتوسطة في ذلك الوقت، والاستثناء منهم من أخذ الشهادة الثانوية.

كنا نتوظف حتى نساعد أهلنا على نوائب الحياة، أو على أقل تقدير أن نخفف عنهم بأن نستقل ماليا.

بعد الثانوي، حملت شهادتي، وذهبت إلى كلية المعلمين بجدة، فهناك حيث سيتحقق الحلم.

أغلب زملائي اختاروا قسم اللغة العربية، وبعضهم ذهب للدراسات القرآنية، أنا الوحيد من بينهم اخترت التربية الفنية، من أجل الحلم الوحيد!

أحد الأصدقاء يبدو أنه خاف عليّ من خيبة أمل تنتظرني، فأخبرني بصعوبة الأمر، خاصة أن القسم بحاجة لعدد محدود جدا من الطلاب، لذا هناك بدائل، وطرق تضمن لي حتى وإن لم أقبل، ستكون هناك فرصة، لكني رفضت لأنني شعرت بأن الحياة متضامنة معي حتى ذلك الوقت.

بعد شهر من التقديم، ظهرت جميع أسماء زملائي في صحيفة المدينة، أنا الوحيد الذي لم ينشر اسمي!

 تسللت للبيت يومها، ولزمت الفراش، أبي لم يعلق، وشعر أني بذلت كل ما أستطيع، وأمي لم تقتنع، وأصبحت توقظني كل صباح من أجل البحث عن عمل، فكنت أنزل للشارع العام، أركب الحافلة بريالين لجامعة الملك عبدالعزيز، وأدخل المكتبة وأمضي كل اليوم هناك، كي أوهم أمي أنني أبحث عن وظيفة، كنت أخرج من المكتبة مساء، وثيابي مكللة بالعثة الحمراء بسبب قراءة الأدب الروسي الاشتراكي.

أحد شباب الحارة مثلي، لم يجد جامعة تقبله أخبرني أن هناك معهدا لتعليم الحاسب الآلي والرقن على الآلة الكاتبة، إذا أخذنا شهادة منه فسوف يكون لنا امتيازا عن الآخرين إذا قدمنا على أي وظيفة.

فكرت أيضا أنها فكرة أخرى لإيهام أمي أني أفعل شيئا.

ثلاثة أيام كنت ملزما بالذهاب للمعهد، وما تبقى من أيام الأسبوع، أذهب فيها للمكتبة، حتى وجدني أحد شباب الحارة غير الأول، بارك الله في عيال الحارة، فأخبرني أنه يعمل في مكتب القبول والتسجيل، وبإمكانه تسجيلي في الجامعة منتسبا، وسوف يضمن لي اللحاق باختبارات الفصل الأول، وبهذه الطريقة لا يذهب الفصل عليّ سدى، وأكون مواكبا لزملائي الذين تم قبولهم قبلي في الجامعة.

وفكرت أيضا أنها فكرة عظيمة لإيهام أمي أني أفعل شيئا آخر.

وبالفعل سكنت أمي الذي كان ابنها يدرس في مكانين، ويبحث عن وظيفة!

وبهذا غرقت في الفراغ، وعدم جدوى العيش، أذهب كل صباح للمعهد، الذي بجوار دوار الجامعة، أجلس في بوفية الهناء، أقضم سندوتش جبنة بالزبدة، وأرتشف الحليب العدني، ثم أصعد للمعهد أجلس هناك لمدة أربع ساعات مع أستاذي السوداني الذي عجز أن يقنعني بأن الحاسب هو نبي العصر الحديث، فكنت أذهب في رحلة الخواء مع أصوات آلات الكاتبة، حتى ينتهي من الحصص، ثم يتحدث معنا عن الحياة، والأحلام، ليخبرنا أنه بلغ المنتهى لأنه حقق حلمه في تعلم الحاسب، وحقق حلم والده الذي كان يحلم بأن يتزوج ابنه امرأة بيضاء، وقد صار!

بالنسبة لي كنت في الظاهر مشغولا، ومزدحما، وفي الداخل كنت فارغا إلا من عواء الخيبة المرير، لقد تلاشى حلمي أن أعلّم الأطفال الرسم في المدارس الحكومية المستأجرة.

بعد ذلك دلني أحد شباب الحارة، بارك الله في عيال الحارة، أن هناك وظائف على البند بمرتبات تبدأ من ٢٠٠٠ ريال، أخذت ملفي الأخضر، وذهبت لشؤون الموظفين في أمانة جدة، أخذ الموظف مني الملف، ونظر في حالتي الرثة، ولا أدري كيف عرف أني لا أملك سيارة.

  • وين ساكن يا ولد؟
  • كيلو ١٠

ثم شرح على الاستمارة، يعين ببلدية أم السلم الفرعية على بند “ب”.

لم يتغير شيء في حياتي، المعهد أصبح في المساء، والعمل في الصباح، وتوقفت عن زيارة المكتبة.

عملت في صحة البيئة، ثم ناسخا، وأنا بعد لم أنتهي من المعهد، الذي من المفترض أن أنتهي منه خلال ستة أشهر، لكنها امتدت لسنتين.

وأثناء النسخ، أصبحت أكتب، وكلما عرض عليّ أدوار أخرى في الوظيفة، أكرر مقولة بارتبلي النساخ: “أفضّل ألّا” وأصبحت أرددها طوال ٢٥ سنة، وظيفيا لم يحدث أي تغير سوى في الترسيم الذي تحسنت بعده الأحوال، لكن العمل في النسخ استمر.

 أجمل ما حدث خلال تلك الفترة الكتابة التي كانت العزاء الجميل الذي كان يقابل أحلامي المبتورة، الكتابة “جبر الخاطر” الذي يمنح الله للمعطوبين، وقد سبق وتحدثت عن ذلك في تدوينة بعض مباهج الكتابة.

في النهاية الأحلام تبقى أحلاما، وربما من جميل لطف الله أن تبقى معلقة، لننظر إليها بعد كل حين لنتذكر أن الحياة تضن أحيانا، لكنها تمنحك في المقابل ما لم يخطر لك على البال.

أحلامنا، وأرزاقنا هي أقدارنا التي علينا أن نحسن التعامل معها.

حلمك المكسور، اربت عليه، وجمّله بالحمد، وعطره بالرضا، ورزقك حافظ عليه، وأنفقه في سبله، ومواهبك  كللها بالشكر، اعطها وقتك، واصقلها على الدوام، واعلم أن بركتها وزكاتها في نقلها للناس.

أخيرا هذا النص كانت له منطلقات أخرى، لكنه خرج بهذه الصورة، لم أعد متعجبا من هذا، فهذه الكتابة، وهذه مآلاتها.

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني كاتب، وروائي، ومحرر أدبي.

المقالات: 31

10 تعليقات

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *