قابلتها صباح اليوم الأول لي في المدينة العتيقة، كانت منكبة على الكتاب الذي يبدو أنها قامت بتحريره قبل شهور، قرأت الفصل الأول من الرواية التي قد نشرت قبل أيام، ويظهر من ملامحها أنها راضية عن عملها، أغلقت الكتاب، ثم دفنت سيجارتها في المنفضة، وانتهت من فنجان قهوتها، ثم حملت حقيبتها وذهبت، وجزء من مسوّدة العمل الذي تعمل عليه ظاهرا من حقيبتها.
في اليوم الثالث أتيت أبكر منها، ولا زالت أصص الزهور التي بجوار اللوحة التي كتب عليها “الطائر الأسود” يتقاطر منها الماء على الطاولات، استأذنت مني لتشاركني الطاولة، لأن طاولتها التي اعتادت الجلوس عليها مبللة، جلست وهي تعتذر، وبلغتي البسيطة أخبرتها أنه يسعدني أن تجلس معي.
سألتها بينما مسودة الكتاب الذي تعمل عليها أمامها: هل أنت محررة؟
فذكرت أنها تعمل في التحرير منذ سنوات طويلة، أكثر من أربعة عقود، وهي تعمل في التحرير لدى لدار نشر بريطانية كبيرة. وعقبت: طبعا لا أستطيع أنا أذكر لك اسمها.
ابتسمت وأخبرتها أنها تعمل محررة قبل ولادتي، فضحكت، فقالت: ربما، أنا تجاوزت السبعين. وتبدو أنت في الثلاثين.
سبعون عاما بين الكتب قلت، قالت: نعم، أنا قضيت حياتي بالفعل بين الكتب، لم أتزوج، وفضلت الكتب!
كف الماء عن التسرب من أصص الأزهار، نظرتْ للأعلى وقالت: سوف أذهب الآن، ستكون الشمس قوية بعد قليل.
قلت لها: أنا معتاد على الشمس.
قالت: من أين أنت؟
قلت: من السعودية.
قالت: شمسكم أقوى بكثير.
حاولت أن أقول لها أنها أقوى ولكنها أجمل، لكنها وضعت مسوّدة الرواية التي تعمل على تحريرها في حقيبتها، وودعتني.
لحظتها وبينما الشمس تداعب الأصص وظلام الحانة، في محاولة منها لتقول: بل أنا أجمل، رددت ما قاله السياب: “الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام، حتى الظلام هناك أجمل..”.