وأنا في الثامنة رأيت لأول مرة في حياتي سربا من الطيور المهاجرة، أتذكر أني صعدت بناية تحت الإنشاء بالقرب من منزلنا، وشاهدت ذلك المنظر البديع، سرب هائل من الإوز على هيئة رقم سبعة، وقائدهم في الأمام ويطلق أصواتا للسرب كأوامر منه لتوجههم وضبطهم، ذلك المنظر أبكاني وقتها، ولا أعرف ما هو السبب وراء بكائي ذاك، إلا أني فسرته فيما بعد أنه صورة من صور الهداية الكونية التي منحها الله للوجود، الطيور تهاجر لطلب الرزق، السلمون يعود لوطنه، ،كذلك السلاحف والجراد، والحيتان الحدباء، وهناك مناظر أعظم لكن ألفناها مثل الشروق والغروب، والمطر، ورؤية البحر، وغير ذلك.
في كتاب “سر الجمال” لجون أرمسترونغ عرّج على هذا في فصل “لماذا تفيض العين دمعا على مرأى الجمال” وفسر لنا ذلك بأنه “لمسة إلهية من الحسن تفطر القلب”!
الجمال يبهرنا، ويسحرنا، ويربكنا فيخرجنا عن خط الاستواء أيضا، ويجعلنا نفقد السيطرة، فينشق القميص، وتتقطع الأيادي من الطلة.
لنعترف أن التعامل مع الجميلات مختلف تماما عن القبيحات وإن كان القبح مجازي في غالبه، يتحدث فتى بسيط مع زميلته في العمل فتسيء الفهم فتبلغ عنه النيابة كونه متحرشا، بينما يتحرش بها الفتى الوسيم فترد بضحكة وقبول، لأن هناك جذب ما في اللاوعي نحو الرغبة في التكاثر!
لهذا أتت العديد من المنظومات الدينية والأخلاقية لضبط هذا الارتباك حتى لا نصبح كالدواب، جمال الظاهر إذا لم يصاحبه جمال الباطن يصبح وبالا ولعنة.
أتذكر في الثانوية كان معنا زميل في الفصل لن أقول كان وسيما، كان جميلا، لكنه يقوم بتصرفات قذرة، فهو يضرط بين زملائه دون حرج، يتسلى بتنظيف أنفه أثناء الحصة ويكور القذارة بين أصبعيه ويقذف بها تجاه الصبورة فتلتصق ويبتهج، إنه يرى أن جماله يشفع له ببساطة، وكم من البلاوي الزرق تندس تحت رداء الجمال الخفيف.
وأقول أيضا قبل أن يفغر الفتى والفتاة، من الضروري النظر في الجمال المعنوي، تلك المنظومة الأخلاقية التي تعزز هذا الجمال وترفع قدره، لا نريد هدرا للجمال، وحروبا طاحنة مثل تلك التي حدثت بين جوني ديب وآمبر هيرد!
الحديث عن الجمال واسع، وجليل، لهذا نغرم بأشياء كثيرة في الحياة لأنها تعزز فينا الحس به، في السفر، وزيارة المتاحف، والاقتراب من الناس، والتأمل في ملكوت الله.
إن دراسة الجمال من أعذب وأجمل العلوم كونها تفتح أعيننا وأذهاننا لاستيعابه وتحليله، والنظر في سره، لذا كتاب “سر الجمال” يحاول أن ينوّض حسّنا بالجمال -ينوض كلمة تستخدمها أمي كثيرا ولا أدري هل لها أصل في اللغة- على كل حال الكتاب من إصدارات منشورات وسم، وبترجمة إيمان أسعد، كتاب سهل وعميق وبرضه جميل وفي أقل من مئتين صفحة.
*اللوحة: صلاة المغرب لغوستاف غيوميه، متحف أورسيه، باريس.
