العظيم في فن الرواية أنه فن متجدد، يستوعب كافة العناصر، ويتخفف منها، يعتنق التقليدية، ويتبنى التجريب، كما أن مفهوم الرواية يتهدم، ويتشيد بحسب الوعي، إنه يتخلى عن كل شيء حتى تصبح الرواية مجرد لغة في غابة مظلمة تتطاير فيها الكلمات كالفراشات كما فعل حسن مطلك في رواية “دابدا” أو ربما تصبح فضاء من اللاوعي أحيانا مثل ما أحدثه خوان رولفو في “بيدرو بارامو”.
مهما تحدثنا عن فن الرواية وعناصرها يبقى المكان أحد أهم وأعظم عناصره، وقد نجعل المكان بطلا فنقول أن هذه الرواية هي “رواية مكان”.
لا شك أن المكان عنصر حيوي وفاعل في السرد، ففيه يتخلق الحدث، وتسير الشخوص، وتظهر الثقافات، والعادات، والإرث الإنساني، وتطفو فوقه الحالات الإنسانية التي هي روح الأدب، ومبتغاه الأسمى.
المكان يأتي بعد الاستهلال الشهير “كان يا مكان، في سالف العصر والأوان” ثم يتجلى المكان، الذي تتحرك فوقه الدمى، المكان القابل للتأثيث، عبر حياة الناس، وتفاصيل الطبيعة، والأصوات المبثوثة، والأحداث التي تجعل الأفواه مفتوحة أثناء السرد، لذا لا يختار الكاتب مكانه اعتباطا في الغالب، حتى وإن كانت هذه المدينة وهمية، فإن هناك مدينة متجذرة في أعماق الكاتب انعكست على سرده.
لذا كان من أثرى المحاور حول المكان، هو الجدل حول حضور القرية والمدينة في الرواية، فبعضهم يرى بأنها جدلية، والجدل مفهوم فلسفي يحوي الخلاف والاحتدام، والانتصار لرأي ما، وهناك من يرى أنها ثنائية، وهذا اللفظ يحمل في طياته معاني أقرب لروح السرد، لهذا اخترت هذا اللفظ أثناء صياغة العنوان، وقبل الحديث عن هذه الثنائية من الضروري الحديث عن مقولة لوكاش التي تحضر دائما في هذا السياق.
يقول جورج لوكاش: “أن الرواية ابنة المدينة” وتفسيري لهذه المقولة أن الرواية منشأها المدينة، وهو طور آخر من أطوار السرد، فالقرية لم تعرف الرواية، لكنها تعرف الحكاية، فانتقل هذا الفعل الشفهي، إلى فعل آخر يمارسه الإنسان الذي مدته المدينة بالرفاهية فجعلته يجلس، ويكتب!
التفسير الآخر يزعم أن الرواية إن لم تكن تحوي تعقيدات المدينة، وتركيبتها السكانية، والطبقية، وغير ذلك من أشكال التحضر فهي لم تحقق الشكل والمضمون للنص الروائي -ينطبق هذا أيضا على التقنيات الفنية- وهذا تفسر قاصر جدا، ومصادر لعوالم من شأنها تثري الرواية، والأدب، وعلى مسألة التحضر، هل التحضر الذي نقصده في الرواية التي على افتراض أنها ابنة المدينة، هو التحضر العمراني، أم الإنساني، هذا السؤال بحاجة لتحرير مفهوم “التحضر”!
والذي أراه في هذا السياق أن الرواية هي ابنة الحالة الإنسانية.
بالنسبة لي؛ لا شك أن القرية والمدينة ساهمتا في تكوني الشخصي، وإذا تتبعت مسار عائلتي فنحن عائلة كانت تعيش في قرية من قرى تهامة جنوب السعودية، قدم أبي للمدينة، وحدث وأن تورط بها، ويبدو أنها كانت رغبة مضمرة عند أمي للتخلص من وعثاء القرى، والشقاء الدائم بسبب الرعي والحرث.
ولدت في جدة في نهاية السبعينات الميلادية، وجربت العيش في الحارة، الحارة تجربة ثرية على الصعيد الإنساني، في المقابل هناك ارتباط قوي بالقرية يكمن في المنزل، الذي تدور فيه أحاديث القرية، وكانت جدتي التي عاشت كل حياتها في الديرة، لا تتحدث إلا عن الحكايات التي شهدتها، أو التي سمعت بها، لهجتنا في البيت لهجة قروية بحته، العادات، والأحاديث، تأتي من القرية، وتذهب إليها، في مرحلة من عمري شعرت أن لدي هوية مزدوجة، وهناك سؤال قائم لا يهدأ حول تلك الهوية، والأنا، هل أنا ابن القرية أم ابن المدينة، وهل علي أنا أنحاز لهوية دون أخرى، هذا القلق هو الذي دفعني للكتابة، والكتابة هي التي أمدتني بشعور آخر، وإيمان نحو تلك الهوية، وهو أن لدي امتياز، وهو هذه الهوية المركبة، التي هي مصدر ثراء للكتابة، وأن ذلك القلق هو قلق صحي، قادني إلى التعرف إلى هويتي التي أصبحت بالنسبة لي مصدر اعتزاز.
ربما من خلال كتابة الرواية حاولت أن ألمس بعض الهم الإنساني المشترك في أعمالي، أخص بالذكر رواياتي الثلاث: نحو الجنوب، الفيومي، آخر حقول التبغ، وحتى أصل إلى رؤية فنية ما، -نعلم جميعا أن الرواية لا تختصر- لكن من أجل وضع تصور عن حضور القرية والمدينة في أعمالي، فرواية نحو الجنوب تتحدث عن “زهران” فتى مراهق يشعر والده أن المدينة سوف تمسخه، فيبعثه والده إلى القرية، ويتولى جده عملية إعادة الفتى إلى هوية الأب والجد، يقع الاحتجاج من الحفيد، ويرى أنه ضحية فكر قديم، يحاول زهران أن يواكب عملية الترميم في الظاهر، لكن في قرارة نفسه لا يصل إلى شيء، فهو يريد العودة لجدة، وأيضا يحتج من وضع أعمدة الإنارة في قريته!
في الفيومي يعود عطية من الحرب، ويشعر أنه بحاجة لمكان أكثر سكونا، فيتجه للقرية، وهناك يظهر له أن الخير والشر، والجمال والقبح في كل مكان، فيصبح المكان الذي كان يظنه مأوى للسكينة، ساحة حرب أخرى.
وفي آخر حقول التبغ، يهرب خضران من البيت ويترك زوجته المتسلطة، ويذهب للقرية لمرافقة جده المتسلط أيضا، لكنه يصل إلى هدنة مع جده كونهما يتفقان على مبادئ إنسانية كبرى، كالحرية، وحق الانسان في الخير، ومن ثم يقرر خضران أن يقيم في القرية بعد أن يمنحه جده الحصن، الذي يقوم بترميمه بطريقة حديثه تجمع بين الأصالة والحداثة، في رمزية لثقافة الإحتواء والتعددية.
هذه الثلاثية رغم أن كل عمل فيها له أحداثه وأبطاله، إلا أن هناك تصورا عن حضور القرية والمدينة في أعمالي، تصور كان يتنامى مع الأيام، لقد كانت القرية والمدينة هي مجرد امتداد للمكان.
أخيرا؛ لو تتبعنا بعض تجليات المكان في الواقع، وفي الفن فإننا نجد أن الإنسان يختاره من أي أجل الانكفاء بعد الإحساس بغربة ما يشعرها وقد يلوح له بعض أسبابها، وقد تخفى، فعندما يكون مسافرا فإنه يرغب في العودة إلى وطنه، فيقصد مدينته، فيغزوه هذا الشعور في مدينته فيقرر الأوبة إلى قريته، فيتسرب إليه في قريته فيذهب إلى حقله، وحقل المبدع الكتابة، التي ينطلق منها متجولا نحو حقول أخرى، ليعالج قلقه بالكتابة، لتجوس الحالة، التي يحاول من خلالها أن يستوعب قلقه، ويتعرف عليه، ويواجهه، وقد وجد الفن، وشاعت الكتابة من أجل مقارعة هذا القلق الوجودي الدائم.