القائمة

تصوري عن الشغف

عندما خاض الناس في الحديث عما سيحدث ليلة ١ يناير عام ٢٠٠٠م كنت وقتها في محاولات لحفظ بعض الأبيات من منظومة عبيد ربه على متن الآجرومية، كان لدي رغبة في تعلم النحو، المادة التي أرهقتني خلال سنوات الدراسة القاسية، فقررت تجربة أخرى وهي قراءة متن الآجرومية على شيخ شنقيطي في مكة.

فكنت أذهب كل يوم إلى مكة عصرا وأعود إلى جدة عشاء، وبعد سنة من الذهاب والإياب، انتهيت من المتن، فقلت لشيخي ليلتها: أشعر أني لم أتقن الفن.

رد علي: هذا أمر طبيعي، ويحدث لكل الناس، العلم رزق، محمد الأمين الشنقيطي صاحب الأضواء لم يفتح له في النحو إلا بعد أن قرأ على شيخه الآجرومية عشر مرات!

صدقا لم أحاول بعدها العودة لتعلم النحو، من أين لي جلد الشناقطة، لهذا اكتفيت بأن أكتب بالسليقة، مع حضور بعض القواعد اليسيرة، وتذكر تلك التجربة في سبيل تعلم النحو.

ليس النحو فقط، بل أي خيار في حياتي بمجرد أن يحول بيني وبينه عارض ما، كنت أتخذ موقفا صارما تجاهه، وأتجاوزه سريعا، ربما يحضر في يوما ما كذكرى فأبتسم، ليس أكثر من ذلك، وسبق وتحدثت عن الرسم في تدوينة قدر الحلم والمهنة والكتابة.

بخصوص الكتابة، فقد كتبت وأنا في العشرين، وقررت أن أكون كاتبا في الثلاثين، وفي وقت مبكر جدا كنت أريد الكتابة أسلوب حياة، وليست مهنة تدر الأموال، وهذا ساهم في بقاء الكتابة، لهذا عندما يحدثني بعض الأصدقاء عن المكاسب المادية والمعنوية من وراء الكتابة، كالشهرة، والجوائز، والعائدات المالية، وعدد الطبعات، والترجمة، والدراسات النقدية، وغير ذلك، أردد أنها “أشياء خارج الكتابة” وهي للأسف أشياء قد تؤثر في الاستمرار في عملية الكتابة، ربما يتذكر البعض الانفجار الروائي الذي حدث بعد عام ٢٠٠٥ تحديدا، كانت كتابة الرواية أسهل الطرق للشهرة، الآن كم بقي من هؤلاء!

بالنسبة لي أرى أن يجرب الإنسان، ويختار ما يحلو له من مهن، ومهارات، ومواهب فرعية، وأن يغير ويبدل، ويعيد النظر حتى سن الأربعين، بعد هذا السن صدقا يحزنني أن أرى أحدهم لا يدري أين يجد نفسه، بحجة البحث عن الشغف!

الشغف عندي يظهر أثناء الاستغراق في العمل الذي تحسنه، الذي قضيت فيه أغلب عقودك أو سنواتك العشر الماضية، الشغف ليس حالة رومانسية كما يصفه البعض، أراه أبعد ما يكون عن ذلك هو أمر يقترب من العذاب، والكد، والاقتراب من الفشل، ومقارعة الخطوب، واليأس والبكاء أحيانا، ثم يظهر ذلك الكائن الذي يشبه برعما ظهر في قلب الصخر فجأة، دون أن يعلم أحد بالطريق القاسي الذي سلكه، هذا هو تصوري عن الشغف.

أما شغف الكتابة فلن أحدثكم عنه، هو أمر فوق الكتابة.

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني كاتب، وروائي، ومحرر أدبي.

المقالات: 31

2 تعليقات

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *