القائمة

الموت بين الأصدقاء

عزيزي ياسر..

قبل قليل “دفنّاك” بجوار والدتك، حتى هذه اللحظة “غير مصدق لرحيلك” هذه الجملة التي يقولها كل من كان حديث عهد بشخص قد مات، فأمس بعثت لي كلمة “رائع” بعد قراءة التدوينة الأخيرة، لم يمض على الكلمة سوى ساعات يا ياسر، وصلتني رسالة في الصباح الباكر أن صاحبك ياسر مات، ذهبت للواتس، وبعثت لك “ياسر صباح الخير” لعلك ترد، كنت أتطلع لردك، لقد وصلت الرسالة، كان واضحا من الخطين الباهتين، لكن لم تظهر الزرقة حتى هذه اللحظة.

عدت لأثر الأصدقاء فوجدت تأبينهم قبل دقائق، تواصلت مع فؤاد وأكد لي الخبر، وذكر أنك مت بين أصدقائك، كعادتك يا صديقي، تعيش بين الأصدقاء وها أنت تموت بينهم، وكأنك تقول: “الموت بين الأصدقاء رحمة”

لقد تقاطعنا منذ أن عرفتك على حب الصباح، نتناول المعصوب في “الصنعاني” ثم نذهب لمقهى “باول” من أجل التوازن، وقد نتفق أحيانا في الظهيرة، ونتناول المندي في البغدادية، قريبا من بيتكم العتيق.

لا تتحدث إلا عن رسوماتك التي أنجزتها مؤخرا، أو العبارات التي خطتها يدك، ثم الحديث عن الفن، والرواية، والفلسفة، والحب، ثم تذهب إلى مكتبك ومشاريعك التي لا أتقاطع معك فيها.

تذكر عندما التقينا صدفة في مقهى “كوب وكنبة” كنتُ جالسا ومستغرقا في حالة ما، كنت بحاجة لصديق أتحدث معه، وفجأة ظهرت داخلا من باب المقهى بضحكتك العالية، والاحتفاء العريض، وأنت تفتح كلتا يديك في المدى، وجلسنا نتحدث كالعادة عن جلال الدين الرومي، وإياد الريماوي، والسفر، والجمال، لقد كانت ساعات مختلسة من قلب الوقت البهيج، هكذا أنت تأتي في الوقت المناسب دون نداء.

هاجرت يا صاحبي للرياض، مثل كل الشباب الذين وجدوا أن الرياض ستحقق أحلامهم، فالرياض تتسع للجميع، تقابلنا في واجهة الرياض، أنت بذات الحماس، والرغبة في خوض التجارب، ولم تترك عادتك في خلق الصداقات، والإخلاص لها، رغم الانكسارات، والخيبات الصغيرة، والنجاحات التي تأتي تربت على الكتف، وقتها أهديتني تحفة على شكل “بيت نصيف” كنت ترمم الغياب بتوزيع معلمنا الحجازي الجميل في رحاب نجد البهية، وعشت في الرياض، وعاشت فيك، بذات الحب، والرغبة، والنبل، والاحتفاء بالخلق، والسعي في الهضاب الكريمة.

العام الماضي كنتُ في الرياض، لحضور حفل ثقافي، وكنت أفتقد الرفاق الذين ذهبوا إلى حائل لمناسبة أخرى، فبعثت رسائل لجميع الأصدقاء، أخبرهم أنني وصلت الرياض، وأن من واجب الصداقة أن يحتفى بي، وكانت الرياض قد تغيرت، فلم تعد تلك المدينة التي يسهل التنقل فيها، لأن مقابلة صديق لمدة ساعة قد تأخذ منه الطرقات المزدحمة أكثر من أربع ساعات ذهابا وإيابا، لا لوم على الأصدقاء الذين حالت بيني وبينهم الجهات والطرقات، وانشغالات العيش، لكنك الصديق الوحيد الذي لبيت النداء، كان لقاء غريبا فقدت كنت حكيما جدا، حكمة من مر بتجربة قاسية، تجاوزتها كما يليق بإنسان حكيم أن يتجاوزها، وتحدثت عن فضيلة السماح، والاعتذارات، والحب، والتجارب، تحدثنا عن مايكل سينغر، وحديثه حول “التوقف عن الوقوع في مياه العقل” وعن المصائب التي لا تزيد المعدن النفيس إلا تألقا، وجمالا، وهكذا كنت، وتحدثنا عن حكمة “عدم رفع سقف التوقعات” والرضا بكل ما نحصل عليه، ففنجان القهوة الذي تعودنا عليه في صباح أن يأتي وفق ذائقتنا، لا ينبغي علينا أن نتضجر إذا وجدناه في صباح من الصباحات ليس فنجاننا الذي اعتدنا عليه، مشروعنا الذي نعمل عليه، لا ينبغي أن نتوقع أنه سوف يكون حديث الناس، ، علينا أن نعمل بهدوء، ونرضا بالمقسوم، ولا نخلق مشاعر متطرفة تجاه ما نريده في الحياة.

في اللقاء الأخير في جدة، تحدثنا عن تجارب الاقتراب من الموت، ثم أخبرتني عن كتابك “كلما سقط قرنك” الذي انتهيت منه، وتبحث له عن محرر، بعثت لي مسودة الكتاب، ثم رحلت، ولا أدري لماذا الأصدقاء عندما يشعرون بالرحيل يبعثون كتبهم لي، كتابك الذي بدا وكأنه تأبين لغيابك الذي سوف يكون مبكرا جدا.

وقبل الاتصال الأخير، بعثت لك أنني بحاجة للتواصل معك، وكان ذلك يتزامن مع مباراة للاتحاد، وأعلم حرصك الشديد على متابعة أي مباراة للعميد، لكنك لم تترد في الاتصال لحظة، كون أن هناك صديق على الساحل بحاجة لك.

أكثر من عقد ونصف على صداقتك يا عزيزي لم أجدك يوما متضجرا، أو في مزاج عكر، ابتسامة دائمة، محبة للخلق، ورغبة دائمة في عمارة الكون، يصاحب ذلك تواضع في أصل الخلقة، عرفناه أصيلا قديما في عائلتك العريقة.

وها أنت تمنح الصداقة، امتدادا نبيلا، وقيمة متينة، وعبقا يليق بجمالها، وتموت بين الأصدقاء، نهاية تليق بحضورك الزاهي والباهي في الحياة.

في النهاية سنلتقي هناك يا ياسر، حيث العوالم الأبدية التي ستلهمك وأنت ترسم بين يدي الملائكة، هناك حيث تخط عباراتك الحكيمة على جذوع الأشجار الباسقة، مبتسما وأنت بين جمهرة من الأصدقاء الذين كنت تحبهم ويحبونك.

إلى الرحمة الواسعة يا صديقي. 

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني كاتب، وروائي، ومحرر أدبي.

المقالات: 44

9 تعليقات

  1. الله يرحمه رحمة واسعة. ويعوضه بالجنه ونعيمها
    ويجبر قلب محبيه واهله

    ..استاذ طاهر
    بدات المرحلة الاصعب ..لعل كتابه ..صداقتكم
    تكون من العمل الذي ينتفع به

  2. من أجمل ما قرأت عن ياسر هذا وانا قريب منه واعرفه جيدا ، تسلسل جميل وعمق وتنوع بارك الله فيك ورحم الله اخونا ياسر ويا ريت يتم تحرير الكتاب ونشره تبع ياسر رحمه الله طالما كان أحد مشاريعه التي يريدها وتكون علم نافع ينتفع به وصدقة جارية له بعد موته
    شكرا لكم مرة أخرى كلماتك ومقالتك رائعة جدا

  3. رسالة جميلة مؤلمة من صديق يحب صديقه.
    رحم الله ياسر وغفر له ورزق أهله وأصدقائه الصبر والسلوى.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *