سبق وأن تحدثت في تدوينة سابقة بعنوان شيٌ في الكتابة عن شيء قريب من هذا، وها أنا أعود له بعد قراءة ثانية لممدوح عدوان، ما الذي يجعل هذا الإنسان يكتب بهذه العذوبة، ممدوح عدوان اللغة الصافية والسلسة، إنه الشعر الذي في دمه، ما الذي يجعله خلّاقا هكذا إنه السارد الذي يسكن أصابعه، لقد قرأ ممدوح عدوان كثيرا وكتب كثيرا، وأصدر كثيرا، وقدم لكتب، وكتب للشاشة، إنه قضى كل حياته يعيش الفن، حتى عندما نقل للمستشفى وأخبروه أن السرطان قد استوطنه، طلب منهم أن يحضروا كتبه من البيت!
تحدثت قبل أيام مع صديقي عبد الرحمن الشهري -ونحن نتحدث الساعات الطويلة حول الفن والكتب، والكتابة- عن القصدية في الفن، وعن الفن كأسلوب حياة، وهناك فرق كبير بين الأمرين، لنأخذ الكتابة مثلا هناك فرق بين أن تكتب لتصدر كتابا، وأن تكتب من أجل الكتابة، هناك فرق بين أن تكتب لتكون نجاحا بمعايير السوق، وبين أن تكتب لأن هناك ضرورة داخلية.
هناك غشاوة على العين أحيانا، بحاجة لماء قليل لإزاحتها، هناك غبار خفيف فوق مرآة النفس، بحاجة ليد صادقة لإزاحته، ولن يفعل هذا أحد سواك.
لقد رسم فان جوخ قرابة الألف لوحة ولم يبع في حياته سوى واحدة، واستمر يضرب بريشته البياض، يصنع الضوء والظلال، ويرسم الأفق، والغربان، والحقول الصفراء، ولم يوقفه سوى رصاصة من مسدس أبو محّالة، لتنتهي حياة فنان صنع حالة فنية فريدة اجتاحت العالم، وصنع ثيمة في عالم الفن.
لقد زرت قبل أعوام بلدة أوفير سور واز وهي البلدة التي عاش فيها فان جوخ أيامه الأخيرة، لقد رصدوا كل الأماكن التي وقف عليها ورسم لوحاته، لقد رصدوا مواطئ الأقدام ووضعوا النحاس موقعا باسم فينسنت في جميع أرجاء البلدة، إنه أثر العيش في الفن.
الآن كل الأشياء النقية تلوثها الرأسمالية، وتسعى لاستغلال الفن والأدب لتكون تروسا في الآلة الضخمة، وهذا مشاهد وملاحظ، لكننا في النهاية نعوّل على الوعي ثم بعد ذلك قد نجد طريقا للعيش في الفن.