القائمة

العودة متأخرا إلى منزل العائلة

بعد تخرجي من الثانوية، حدث وأن خرجت من المنزل، بعد نقاش حاد مع أبي حول القرارات وحق الخيار، وكان هذا أول خروج لي من منزل العائلة.

سكنت في حي الجامعة الشعبي في منزل صغير جدا، لم يكن في المنزل سوى فراش في الزاوية، وتليفون يتصل بخط أرضي، أرفع السماعة آخر الليل فأسمع وشوشات الناس، بسبب الخطوط المتداخلة، أنصت لحكايات سكان الحارة، الذين من الممكن أن أتداخل معهم لأخبرهم أني أسمع صوتهم، فيخبروني أنها مشكلة قديمة، وكأنهم بذلك يتيحون لي حق الانصات لمكالماتهم الليلية.

كان الأصدقاء والزملاء يحضرون من حين لآخر، لكن الوقت الأكبر للوحدة في الحي الذي لا أعرف فيه أحدا، الكتب كانت بالجوار، وكذلك فول القرموشي، وكذلك مصنع السوبيا الذي تعرفت على صاحبه، فأصبح يضع لي ثلاثة أكياس يوميا عند الباب، واستمرت الوحدة طويلا، ثم انتقلت إلى عمارة ذات شقق كثيرة بعد الزواج، مكثت فيها أكثر من عشر سنوات خالية من أي ذكرى، لأن شقق الغرباء صناديق بلا ذاكرة. 

أصيب أبي بسرطان القنوات الصفراوية، وقد التحق إخواني بدورات عسكرية، وأصبحت أعود لمنزل العائلة وأمكث فيه فترات طويلة، نستقبل الناس الذي يأتون أفواجا للزيارة، الأقارب، والجماعة، والجيران، أصبحت أرافق أبي مرة في المستشفى، ومرة أمكث معه في البيت، وقتها أتت فكرة الأوبة للمنزل الأول، لكن أبي لم يمكث طويلا، قام إخواني بعد عودتهم ببناء بيوت صغيرة فوق منزل العائلة، ونقلنا مكتبة أبي إلى غرفة أخرى، ولم تكن المكتبة حية كما في حياة صاحبها، وكما قال بول أوستر “الأشياء تهمد وتموت بموت أصحابها” لم ترتب الكتب ولم تجد أحدا يمسح عنها الغبار، ويشغل لها جهاز التكيف لتبرد كما كان يفعل أبي، كانت الحرارة تخنق الكتب بمرور الأيام، ثم أتى مشروع إزالة الأحياء العشوائية، وكان بيتنا من ضمن البيوت التي شملتها الإزالة، فقمنا ببيع أرض للوالد في أقصى شمال جدة، واشترينا أخرى في أقصى جنوب جدة، وحدث أننا لم نتفق، فقررت المكوث في بيتي بعيدا عن المنزل العائلة الجديد الذي أخذ يتشيّد في الجنوب، وقد بذل فيه إخواني كل ما لديهم من جهد ومال، ونشبوا في القروض، ثم سكنوا بعد ذلك، لكن بقيت شقة مقابل شقة الوالدة لم تسكن، أطلقوا عليها اسم شقة “طاهر” التي صدقا لا أرى لي الحق فيها، لأني لم أبذل فيها مالا ولا عرقا، وحتى لا أكذب، ربما كنت حينها غارقا في مشاعري بسبب أننا لم نتفق ابتداء.

كانت مكتبة أبي في الدور العلوي في الشق الذي لم يسكن، وقد مكثت هناك تقاوم الحرارة، والرطوبة، والمطر، عندما صعدنا لها بعد عام شاهدنا الدمار الذي لحق بها، لقد تلف ثلث المكتبة، واستحال الورق إلى رماد تذروه الرياح، لم أكن مصدوما، ولم أشعر بالخسارة، فالخسارة الكبرى كانت عند رحيل صاحبها من قبل، ثم بدأ الضغط عليّ أن أسكن معهم، وكنت صامدا في مسألة عدم السكن مع العائلة وأجد لذلك مبررات كثيرة، وكان إخواني في كل مرة يتحدثون عن شقة “طاهر” التي كنت أقول لهم أنه من الأفضل استثمارها كدخل ثابت للبيت.

استمر الضغط، واستمر الموقف، في النهاية طلبوا الاجتماع بحضور الوالدة، وقبل الحضور قررت أن أكون نائبا عن شخصي، بعيدا عن المشاعر التي كنت غارقا فيها، جلسنا، وقلت لهم ماذا تريدون؟ فطلبوا مني أن أقوم بتشطيب الشقة والسكن فورا، قلت “أبشروا” كانوا بين مصدق ومكذب بسبب سرعة الرد، وأنا مع سرعة الرد، في حال إذا لم يكن الشخص مشحونا بالمشاعر، لأن ردود الفعل الغارقة في مشاعرها، هي محض ضعف، والقرارات المتجردة من العواطف -في حدود الإنساني- قرارات حكيمة في كثير من الأحيان، وإذا اقتنع الإنسان وآمن بقراره فلا ينبغي عليه أن يتردد، لأن “التردد جحيم بين حياتين”.

وهناك أمر آخر، محاولات النبل لا تجهضها، ودعوة الكريم المحب لا ترفضها، فإشاعة الخير واجب بشري في زمن بدت فيه شمائل الخير تندثر، فكيف بطلب من أخيك وقد قال علي كريم الوجه: إن أخاك الحق من كان معك، ومن يضر نفسه لينفعك، ومن إذا ريب الزمان صدعك، شتت فيك شمله ليجمعك.

وكما وعدتهم أخذت قرضا من البنك كما يفعل كل الناس، وشرعت في تشطيب شقة “طاهر” وبعد أربعة أشهر سكنت.

وكان أول عمل قمنا به هو نقل مكتبة أبي لشقتي، في محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ونقلنا المكتبة، نقلها الأبناء والأحفاد، وحاولنا أن نتقمص دور أبي أثناء ذلك الدور الحزين، وكان أعظم ما وقفنا عليه أثناء ذلك العثور على مذكرات أبي، التي شرع في كتابتها عام ١٩٨٢م.

بعد الانتهاء من ترتيب الكتب، وتنظيفها مما علق فيها، خرج إخواني من المكتبة بعد منتصف الليل، وبقيت بعدهم، قرأت ثلاث صفحات من مذكرات أبي فلم أستطع النهوض بسبب التفاصيل، كانت مكتبة أبي باسقة أمامي، وكانت أمي على بعد خطوات مني، ثم همست وأنا أمسح الغبار عن وجهي: “أخيرا عدت إلى منزل العائلة”.

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني كاتب، وروائي، ومحرر أدبي.

المقالات: 44

2 تعليقات

  1. لغتك السردية ساحرة، أتورط معها كل مره بشكل أكثر عمقاً، ورطة جميلة. استوقفتني فقرة قراءة المذكرات، أشعر حين قراءة مُذكرة شخصية بالتلصص على أضيق مساحة بين الشخص وذاته، لديّ مذكرات خالي، ارتعب حينما أقرأ التاريخ الذي خطه، والكلمات التي يشطبها. أشعر حين المرور بمكتبة شخص ميت بشعور مُحبط، إن كانت الحياة كُلها تستحق أن نمنحها كل هذا الحب والاهتمام!

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *