القائمة

عن بعض مباهج الكتابة

بعد الألفية خرجت من حارتي، وسكنت حي الجامعة الشعبي، وهو من الأحياء الشعبية الكبيرة، ويتكون من عدد كبير من الحواري المتجاورة، هذا الحي الشعبي الكبير والقديم يقابل صرحنا التعليمي العظيم جامعة الملك عبدالعزيز، وقد كنت في ذلك الوقت أدرس فيها منتسبا، وموظفا بأمانة جدة على نظام بند الأجور وراتبي لم يتجاوز الألفين إلا ببضع ريالات فقط، وكنت متزوجا، وأنا بعد في العشرين!

قررت وقتها أن أواجه الحياة بالكتابة!

قضيت أوقاتا طويلة في الكتابة بكافة أشكالها، انتهت تلك التمارين بكتابة روايتي الأولى، التي كانت كتابتها مجرد محاولة، جمعت الأوراق، نسختها على الوورد ثم طبعتها، وذهبت لدار نشر صغيرة يملكها أحد “عيال الحارة” كان ينشر بعض مقررات الجامعة، وكتب مسابقات من تأليفه، وبعد أن تحدثنا عن الحياة والحارة ومن نعرفهم من الشباب، قدمت له المسوّدة، ووعدني أنه سوف يلقي نظرة عليها خلال الأيام القادمة.

بعد أيام مررت عليه، وأخبرني أن زوجته قرأت مسودة الرواية وأعجبتها، وسوف ينشرها، وقعنا العقد الذي ينص على منحي ٨٪ من الأرباح بعد انتهاء العقد أو نفاد الطبعة الأولى.

كان الأمر في غاية السهولة، بخلاف ما أسمعه عن قصص النشر، فأنا لم أدفع لمطبعة، ولم أطرق باب العديد من دور النشر، ولم أذهب لناشر عربي.

أصبحت كاتبا بمجرد أن نُشر لي!

المفارقة التي حدثت عندما يعرف من حولك أنك “كاتب” أول ما يتبادر إلى أذهانهم عائدات الكتابة، أنت كاتب إذن أنت غني! 

ربما ذلك يعود لتأثير السينما علينا، ومن قارف الكتابة يعلم أن الأمر بخلاف ذلك، وقد تحدث للبعض أمورا بخلاف العادة.

..

مضت مدة العقد سريعا، لم يتغير أي شيء، كتابة في الصباح، وقراءة في المساء، وأنام مبكرا حتى لا يتأثر هذا البرنامج الصارم، ولم يتغير وضعي المالي نصف المرتب يذهب لقسط السيارة المستعملة، والنصف الآخر يتبخر بعد أيام، ثم لا أدري كيف تسير الأمور. 

في إحدى مساءات منتصف الشهر، كنت أقود سيارتي في دروب الحال والحارة المظلمة، الضوء المشع وقتها هو ضوء لمبة البنزين الذي يوشك على النفاد. وكنت أسير حينها في شارع عبدالله السليمان، مختارا خط الخدمة، تحسبا لانطفاء محرك السيارة.

صادف وقتها أني كنت بمحاذاة دار النشر، وكنت أستحي من الحديث مع الناشر، الذي نشر لي دون مقابل، لكن كل شيء قد تكالب عليّ، الفاقة والظلمة، ولمبة البنزين!

أخذت الجوال وأنا أتقاطر حرجا، ذكّرته بأن العقد قد انتهى فقط، وكونه ابن حارة “فتك” ونبيل، فقد شعر في جزء من الثانية بالحال، فطلب مني الحضور فورا إلى مكتبه الخاص في الدور الذي يعلو المكتبة، صعدت إليه، نظر في العقد وأخبرني أنه سوف يدفع لي كامل الحقوق على الرغم من أن الطبعة لم تنفد، ولم تمض دقائق حتى نزلت وفي يدي ما يقارب 1800 ريال، كنت سعيدًا، وكانت السعادة مضاعفة كون الكتابة تجلب المال.

انطفأت لمبة البنزين، تبضعت للبيت، وضمنت مصروف الشهر.

هذا الموقف جعل هناك امتنانا كبيرا نحو الكتابة، بعد سنة من ذلك الموقف أتى التثبيت، وتحسن وضعي المالي، ولم أنقطع عن القراءة والكتابة، حتى كتابة هذا الكلام.

..

الكتابة تسبقها ويصاحبها بعض الأوجاع أحيانا، لكنها بعد سنوات تمنحك المسرّات، أعظمها ليست المنح والأسفار، والفنادق الفارهة، والمال الذي يأتي في الوقت المناسب، بل ذلك التجلي الهائل للكلمات، التي تخرجك عن فلك الواقع، إلى عوالم أخرى، أقرب لعوالم التصوف، وتشعر أن كل الهموم، والرغبات تضمحل أمام الشعور العارم الذي يجتاحك لحظة الكتابة المباركة. واستطيع أنا أن أضيف لها لحظة قبضي ذلك المبلغ الصغير، من تلك الدار الصغيرة وفرحي به.  

*الصورة: جون فانتي صاحب “اسأل الغبار”

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني كاتب، وروائي، ومحرر أدبي.

المقالات: 46

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *