قبل قليل كنت أقلّب الإنستغرام فظهرت لي منال العويبيل عبر حساب القناة الثقافية، تسأل عن أول فيلم شفته.
ايش أول فيلم شفته؟
وبما أن السؤال بالعامية، بتكون الإجابة بالعامية برضه.
المشكلة أن توقيت هذا السؤال كان غلط خاصة بعد ما يتغدى الواحد سليق، لكن لنعتبر أن وظيفة الكتابة الآن هي التهضيم.
أول فيلم شفته كان “سكارفيس” لآل بتشينو، شفته أظن وكان عمري خمس/ ست سنوات، في هذي الحدود، المهم أتذكر تماما آل بتشينو وهو عند الدرج ويرش العصابة بالرشاش، وقتها ما كنت أعرف آل بتشينو وماني مدرك ايش اللي قاعد أشوفه أصلا، لكن بعد سنوات طويلة قررت أن أتابع آل بتشينو تحديدا عندما شاهدت فيلمه البديع “رائحة امرأة” فقررت أن أشاهد أفلامه حسب سنة الإنتاج من فوق لتحت، عندما شاهدت سكارفيس، صفقت وأنا وحدي، وقلت يا الله، هذا الفيلم اللي شفته وأنا صغير!
وأول فيلم عربي شفته كان “عنتر شايل سيفه” لعادل إمام ماني متذكر الآن بالضبط متى شفته، بس كنت طفل، بعد سكارفيس بشويه ممكن، وكان فيلم رخيص ومدمر، ولا زالت المشاهد حاضرة في جمجمتي حتى الآن، طبعا شفته عند الجيران، اللي ما كانوا يفكرون أصلا بعمر المتلقي هو صغير أو كبير، يستوعب، ما يستوعب، مناسب له، غير مناسب، الفديو فاغر على الدوام، ويبلع أي فيلم كان، سواء لولو الصغيرة، أو حمام الملاطيلي، ما عنده أي مشكلة في عرض كل حاجة.
ما أتذكره في بداية الثمانينات أنه ظهر فيلم “عمر المختار” كان الجيران ينادون أبويه ليتفرج فيلم سيدي عمر، وكنت أروح أتفرج على أبويه، وهو يتفرج على سيدي عمر المختار، أبي مندهش من أداء انطوني كوين المذهل، وإخراج مصطفى العقاد، في البداية الشيخ يعلم الأطفال القرآن، يتلون سورة الرحمن، ويتحدث عن الميزان، ثم يذهب الأطفال للعرس، يدخل المختار بيته ويخرج ببندقية فرخ بلجيك، ويجلس بعد أن وصله الخبر أن هناك حملة إيطالية أخرى على ليبيا، يجلس على الدكة، وينطق الشيخ بالحكمة: يقول أبي أن كل ضربة لا تقصم الظهر تقويه!
يفرح أبي عندما تغطرف النساء فرحا بقدوم المنتصرين، يبكي أبي عندما يشاهد الشيخ قد سقط وأسر، الشيخ يسحب الأصفاد في السجن ليتوضأ، الشيخ يشنق، تسقط النظارة، تغطرف النساء للشهيد، يأتي علي، ويلتقط النظارة، ينزع أبي النظارة ويمسح دموعه، بينما صوت المختار يخبرنا في آخر الفيلم، نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت!
اشترى لنا أبي جهاز الفديو بعد الابتدائي، وهنا أصبحت أنا من يختار الأفلام كوني الابن الأكبر، طبعا كانت أشهر أماكن بيع أشرطة الفيديو -بعد الجمجوم، والبلجون- محلات في سوق الأمير متعب الشعبي من الناحية الغربية، من بداية الشارع فديو اليوسف إلى نهاية الشارع فديو السوسن أظن، محلات متراصة لبيع كل أنواع الأفلام، أمريكي، عربي، هندي، حفلات، بالنسبة لي اخترت مبكرا الأفلام الأمريكية، وهاتك يا أفلام أكشن سيفلستر ستالون رامبو بداية من الدم الأول، على روكي، بعدين فان دام، على ستيفن سيجال، شوارزينجر، كوماندوز، على الترمنايتور، مع مجموعة أفلام الأكشن التجارية، ذات جودة متوسطة، أكثرها غير مترجم!
القناة المصرية كانت تعرض في الويكند بعض الأفلام الرائعة، فيلم الطيب والشرير والقبيح، شاهدته على القناة المصرية، إضافة لفيلم كرمر ضد كرمر، فعرفت دوستن هوفمان، والجميلة ميريل ستريب.
بعد كذا كنت أستطيع القيادة، وكنت أذهب لفديو ألوان في حي الشرفية، فديو يكتب نبذة عن الفيلم اسمه، والممثل، والمخرج، ونوع الفيلم: أكشن، رعب. قصة، وتفاصيل صغيرة، كانت تهمني كثيرا، ونزلت أفلام وقتها رجل المطر، صمت الحملان، والرقص مع الذئاب، وأفلام ثقيلة من الناحية الفنية، وهناك كان يجتمع الناس الذويقة للسينما، ونتحدث عن الأفلام، وممكن ناخذ رأي البعض.
ذيك الأيام نزل فيلم “فورست قمب” وعرفت أن مخرجه هو نفس مخرج عودة للمستقبل، أقرب الفيلمين من بعض عشان أشوف المعلومات، وأنادي العيال والله هو يا شباب، نقرب الحديقة الجوراسية، من فيلم أديانا جوينز، والله نفس المخرج يا شباب!
ثم نزل القرار الصارم تلك الأيام وهو منع الأفلام الأجنبية المقرصنة، وإجبار المحال ببيع النسخ الأصلية فقط!
صدقا هذا القرار ضرب سوق الفديو تلك الأيام، وحطمنا نحن الذين نتابع الأفلام في الحواري، لأن الفيلم كان يباع بعشرة ريال، وفي سوق الصواريخ كانوا يبيعونه بخمسة ريال.
فجأة صار الفيلم بخمسين ريال، وشراء مو إيجار، بعد كذا تخفف الأمر، وأصبح هناك تأجير بـ ١٠ ريال وتأمين بـ ٤٠ ريال، وهذا المبلغ صعب توفيره ذيك الأيام، نحن الذين كنا نجمع المصروف حق المدرسة عشان فيلم الويكند!
خفتت مشاهدتي للسينما بسبب القرار، وهذا جعلنا نركز على العربي قليلا فشاهدت أجمل فيلم عربي بالنسبة لي وهو فيلم الكت كات لمحمود عبدالعزيز، الشيخ حسني، اللي يشوف في النور وفي الضلمة كمان، وبعدين شاهدت وحبيت أفلام أحمد زكي الله يرحمه، خاصة تلك التي أخرجها عاطف الطيب رحمه الله، ضد الحكومة، والهروب، والبرئ، بعدين طلع الدش، الضربة الثانية لمحلات الفديو، وبالفعل أغلق أغلبها، ولم يصمد إلا القليل، ولم يبق في سوق الأمير متعب إلا محل واحد فقط، فيه عدد قليل من الأفلام الجديدة، بالنسبة للقديم لا وجود له.
بعد بكم سنة ظهر الإنترنت الضربة الثالثة لمحلات الفيديو، وبالسماع لم يتبق إلا محل واحد فقط في جهتنا وهو فديو الساحل الغربي، أتكلم عن شرق الخط السريع، كمان الجامعة والثغر والشرفية، ونطاق واسع من جدة، في البغدادية لم يصمد إلا فديو جمجوم والبلجون أظن.
بعدين رحت أشوف محل الفديو هذا، الناجي الأخير في المنطقة، كنت أسمع فيه، بس ما قد رحته، وكان في حي الجامعة، على شارع الجامعة، في نفس مجمع السباكة، فديو الساحل الغربي، ولأول مرة أشوف محل فديو بهذه الضخامة، وقابلت هناك عم خميس، المحل هائل ومدهش، أمامك مكتبة بصرية، دواليب متحركة خلف دواليب، خلف دواليب، هناك أنت بالفعل خارج الزمان والمكان، الأفلام ذات جودة عالية، ثقافة عم خميس السينمائية، أغلب الأفلام كانت لديه يعني تلقى أغلب أفلام مارتن سكورسيزي من الشوارع القذرة إلى آخر فيلم له وقتها عصابات نيويورك، كان يحدث أحيانا أنه يدخل شاب ويطلب فيلم هندي، وعم خميس ما يعترف بالسينما الهندية أبدا، ويعلق عليه: يا ولدي تابع شيء فيه قيمة، وش تبغى بناس نص الفيلم يبوسوا بعض على الأرض ونصه الثاني يتضاربوا في السما!
المهم فديو الساحل الغربي كان نافذتنا للعالم، كيفن سبيسي، تارنتينو، جون مالكوفيتش، وكمان الطليان آل بتشينو، ودنيرو، وجون باشي، وباقي العيال، عم خميس يخليك ترجع تشوف بل فيكشن مرة ثانية، وتتراجع عن رأيك، يناقشك في الثور الهائج، وما المدهش في رفقة طيبة، الجدير بالذكر أن عم خميس وصل لخوارزميات الذائقة قبل النتفليكس بأربعين سنة، فهو يعرف جوك وأفلامك، ويتواصل معك، يناقشك، واستمر الوضع آخر حلاوة مع عم خميس، وفي يوم من الأيام صار شيء، طبعا ذيك الأيام حاول السي دي يهيمن على السوق بس ما ضبطت أموره، بقي الفي اتش اس صامد، بس يوم من الأيام جا شاب عند عم خميس، أيوه طبعا عم خميس كان عنده اهتمام بكرة القدم، كان الدور العلوي من المحل إرشيف هائل لجميع مباريات الاتحاد والأهلي، أي مباراة قبل عشرين سنة للاتحاد أو الأهلي تلقاها عنده، المهم جا الشاب لعم خميس، وجاب معه قطعة صغيرة تشبه مقراط الأظافر، وقاله: أبغاك تنزلي الدوري الإنجليزي من القطعة ذي وتنسخها في أشرطة فديو، أخذ عم خميس الخابور الصغير وقعد يقلّبه، وقال: ايش ذا يا ولدي، قال: هذا ميموري “يو اس بي” فيه الدوري الإنجليزي السنة ذي، أعاد له القطعة وهو مصدوم طبعا، وفي اليوم الثاني أعلن عم خميس عن تصفية للمحل، وأغلقه بعد شهر!
بعد كذا كانت فيه تجربة فخمة في عالم الأفلام الـ DVD بس ارتفاع سعره كان عائق كبير جدا أمام المشاهدين، النسخة أصلية وللشراء فقط، النسخة تصل أحيانا قريب المئة ريال، لكن تجربة مدهشة، الجودة العالية جدا للصورة، الصوت، توفر الترجمات، والدبلجة أحيانا، ما وراء الكواليس، مقابلات مع صناع الفيلم، صور فوتوغرافية من الفيلم، تتيح لك الموسيقى التصويرية، أو تصور الأوركسترا، الفيلم كامل دون تقطيع أو ترقيع، بعض الأحيان تقع على ترجمة حرفية بعيدا عن “تبا لك”.
ثم كان هناك متجر سعودي دي في دي، كان يتيح لنا الأفلام الأجنبية الأخرى غير الأمريكية، فشاهدنا “إميلي” و”سيمفونية الرجل الصالح” و”مالينا” وأعمال لفلليني، وكارستمي، ومجيد مجيدي، استمر الوضع حتى أتت المنصات الرقمية وقضت على كل شيء، حتى تلك البهجة الصغيرة عند اكتشاف فيلم ممتع تتحدث عنه أمام أصحابك في الحارة ليذهبوا ليشاهدوه وتتناقش معهم فيه، أنا محظوظ كوني عشت العقد الذهبي في تاريخ السينما الذي امتد من بداية التسعينات إلى الألفية، بعد ذلك هناك أفلام تظهر بين حين وآخر، ما راح تخسر لو ما شفتها، الأفلام كانت نافذتنا الوحيدة نحو العالم والحكايات، وأمتعتنا والله، وانعكست حتى على الكتابة أيضا، ففي رواياتي أطفال السبيل، ونحو الجنوب، والفيومي، استعنت بتقنيات سينمائية تخص الصورة لكتابتها ، وهناك روايات كتبت بتقنيات سينمائية زي رواية “بلزاك والخياطة الصينية” وغيرها، ولا يوجد كاتب يشاهد السينما لم تنعكس على كتابته، لهذا أقول أن الروائي الذي لم يشاهد السينما بشكل كافي، يفتقر إلى مغذي كبير للعوالم التي يخلقها، وبس والله.