أشياء تركتها

مع بداية السنة الهجرية تركت بعض الأشياء وشعرت من بعدها أن الحياة أصبحت أفضل فكريا وبدنيا، أول هذه الأشياء النتفليكس، المنصة التي أصبحت كمية الزبالة فيها فوق طاقة الاستيعاب البشري الفطري، فقبل أن تبدأ بترك المنصة من أجل أطفالك اتركها من أجلك أولا، فالمنصة أصبحت ترمي لنا أعمالا في منتهى السوء من الناحية الفنية وكذلك من ناحية المضمون الذي لا يخفى عليك، لكن هناك منصات أخرى تعرض لنا أعمالا دون مبالغة في الوقاحة، ودون هوس التطبيع للسوء.

الشيء الآخر الذي تركته، هو الإفطار في البوفيهات قبل الذهاب للعمل، لقد توقفت محاولة البحث عن بوفية صباحا، وبالتالي وفرت الوقت والجهد، والمزاج، والمال سوف تكتشف أنك تدفع على الإفطار مبلغا مبالغا فيه، ليس هذا فقط بل تدفعه على طعام رديء، من الغبن الدفع على شيء رديء، في جدة هذا ملاحظ بشكل كبير، بخلاف الرياض مثلا، سبق أن تحدثت عن ضرورة النظر في معايير المطاعم لدينا، في البوفية لا تظن أنك لو طلبت ساندوتش تونة سوف يحضرون لك تونة ريو ماريو أو لنقل بوتان، بل سترى من عجائب المنتجات الرديئة التي لن تراها إلا في الكافتريات فقط، هذا الأمر ينطبق على الأجبان، وأنواع المربى، والزيوت الكارثية، التي ربما بعضها يُجلب من جبل علي، حتى الخبز سيكون خبزا قديما لأنهم يشترونه من المخابز بثمن بخس، الصامولي الذي يتفتت بمجرد نزع الورق عنه، هناك شيء بخصوص روائح الكافتريات يعرفها من يفضلون لبس أثواب القطن، فالقطن من عيوبه أنه يسحب الروائح من أي مكان، فلك أن تتخيل أن تذهب للعمل صباحا وأنت تفوح منك رائحة الكشنة، لهذا تركت البوفيهات غير آسف، طبعا لم أتحدث عن مستوى النظافة هناك، الآن أصبحت أحمل الطعام من البيت، بيضة مسلوقة تكفي، لدي تمر على المكتب، مع قهوة اسبيرسو.

لكن!

أختلف الأمر مع دخول أصغر أبنائي للروضة فأنا وهو وأعمامه وإخوانه وأبناء أعمامه، وأبناء عماته، وأبناء خالاته، وقرابتنا، وجراننا، وأغلب سكان جدة نحب المعصوب، لهذا اعتدت معه كل صباح أن نأخذ المعصوب من فروع القادري القريبة من المنزل أو المدرسة، والتي تقدم خدمة الطلب عن طريق السيارة.

هناك أشياء تركت أن أبحث عن المزيد من الخيارات فيها مثل العطور، لقد اكتفيت بمجموعة من العطور من أيام مراهقتي إلى عام 2020، وهي لا تتجاوز الخمسة عطور بداية من ميربرتمان وانتهاء بأيرش ليذر.

بالنسبة للأقلام تركت استخدام قلم باركر لعدد من الأسباب، واكتفيت مؤخرا بقلم ووتر مان، لأنه قلم أنيق وسيال في الكتابة،

لقد توقفت عن البحث عن أحذية من سنوات طويلة بعد أن وجدت حذاء بريكنستوك، وكذلك الجزم لقد عانيت سنوات طويلة من جزم المشي، وأخذت أشهر الماركات وأغلاها ولم تحل المشكلة، هذا العام بعد أن تسلخت قدمي وأنا في باريس بسبب جزمة أديداس ألترا بوست، اكتشفت بدلالة الأصدقاء جزمة هوكا الساحرة، لقد تأخرت كثيرا حتى أستمتع بالمشي الطويل في السفر.

وهناك أشياء رائعة تركتها بسبب الحساسية، ليست الحساسية شديدة لكنها مزعجة، فأنا أتحسس من جميع اليقاطين، الحبحب، الشمام، وأشياء تهيج القولون مثل الفلفل الأسود والهيل.

كل هذه الأمور لها دلالات وإشارات لها علاقة بالسن، والبدن، والرغبة في اختيار أسلوب حياة أبسط وأسهل وأكثر انسجاما بالمرحلة العمرية التي أعيشها، فمع التقدم في السن تقل الرغبة في الاكتشاف الطفولي الذي يلزم الإنسان العقود الثلاثة الأولى من عمره، لهذا عندما تشاهد تصرفات الناس بعد العقد الرابع من العمر تجدها أكثر هدوء، وأقل رغبة في الاكتشاف، يكتفون بأماكن محددة، بطعام جيد، بالمشي، يتجنبون تسلق الجبال، وركوب الأمواج والقفز المظلي، ويفضلون الاستكنان والتسليك أيضا.

الأشياء الجديرة بالترك غير ما ذكرت الخلق الرديء، وفعل السوء، نحن لسنا ملائكة ولسنا شياطين في ذات الوقت، لكن كيف نوقف عمل السوء الذي قد نقارفه مع أنفسنا ومع الناس وقبل ذلك مع الله، أولى الأشياء بمعالجة تلك الأفعال هو ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، لذا مع التأمل الدائم في السلوك والنية الصادقة، والدعاء سوف تصلح الأمور بحول الله، لهذا ألهج بالدعاء كل صباح بذلك الدعاء الجميل: “يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين”. 

 لا أدري ما الدافع وراء هذه التدوينة، لكن هذا ما يمتاز به التدوين عن غيره من قوالب التعبير، مثل هذه الكتابة لن تجدها في الرواية ولا في الصحف ولا عبر الشاشات، لهذا أحب التدوين.

صباحكم سعيد  

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 111