في ظني أن أثرى تجربة لسردنا المحلي كانت أيام “جسد الثقافة” لقد كان منتدى جسد الثقافة ورشة كبيرة للسرد المحلي، وكان بشكل أو بآخر مكان احتفاء بالسرد، خاصة كتّاب القصة القصيرة، لقد عرفنا من خلاله أسماء تكتب بجمال وتفرد، وأتذكر منهم أحمد الحقيل الذي كان يكتب نصوصا طويلة، أضطر لطباعتها على الورق أحيانا، وقد كانت تجربة ملفتة تلك الأيام، لكن بمجرد أن أغلق جسد الثقافة لم أعد أقرأ له، رغم أني أرى بعض كتبه على الرفوف أحيانا.
العام الماضي قرأت أحمد الحقيل، بدأت بمجموعته “بيت” التي لم تكن تشبه تلك النصوص التي قرأتها في الجسد، نصوص سردية أصيلة، أسلوب مختلف عن النصوص التي كنت أقرأها، أعترف لقد أصبت بعد قراءة مجموعته القصصية “بيت” بصدمة، لقد تأخرت عن قراءة أحمد الحقيل، لذا شرعت مباشرة بقراءة رواية “أيام وكتب” التي حصلت عليها من معرض جدة للكتاب الشهر الماضي، ورأيت كيف يخلق أحمد الحقيل من اليومي عوالم قريبة وحقيقية ونابضة، إنه سرد يشبه الكلام العادي لكنه ساحر، تفاصيل عن حياة مراقب في وزارة العمل، حياته في الشارع والبيت، والمكتبة، مع ذكر صور لذلك الإنسان الذي نعرفه جيدا، ذلك الذي يتردد في القبض على يد زوجته وهم في مكان عام، ذلك الإنسان الذي يتفاجأ أن أحدهم تقدم لابنته، ذلك الشخص الذي “تقفطه” زوجته وهو على علاقة بامرأة، وتقوم بتقريعه، و”غسله” فيرد كما نرد تماما، عمل نقف مع صفحته الأخيرة لنرى البياض الذي لا أريده في ذلك الوقت وأنا هارب من برد حائل.
أمس انتهيت من قراءة رواية “طرق ومدن” ذلك الضخ السردي الهائل عن تلك القصص التي تدور في نجد في سردية جاذبة، يضيعك الكاتب لتخرج خارج الزمن بسبب تفاصيل وقصص ما، فتذهب معه دون شعور، ليعيدك تارة أخرى للحدث الذي أخرجك منه، بلغة خاصة وأسلوب متفرد لا يشبه في أحدا، إنه يبعث لغة أخرى تشعر أنها اندثرت فتقف على كلمة “قزع” و”بخشة” ويتلاعب معك في الكلمات ففي الموطن الذي تتمنى فيه كلمة بعينها أن تأتي في السياق، يخذلك، ثم يخاتلك بها بعد سطرين، كأنه يريد العبث معك.
إننا أمام كاتب نجح في تحقيق الأصالة التي كنا نبحث عنها لسنوات من أجل أن تحضر الرياض ونجد في سردنا المحلي، إنها بهجة عارمة عندما تقف على لحظة السرد المباركة تلك، تشبه لحظة أن تجد مسبحة والدك المتوفي منذ سنوات وأنت تفتش عن شيء غير مهم!
هذا هو سردنا المحلي العريق الذي يحق لنا أن نحتفي به، والذي ليس بحاجة لجوائز كي تصدّره، ولا لترجمة كي تقدمه للآخر، إنه سردنا الأصيل، والحقيقي، الذي نريده، والذي نشعر بالامتنان الكبير لمن كتبه.