لا تحقق كل أحلامك، لا تكتب كل كتبك، لا تنجز كل مشاريعك، اترك بعض الأشياء معلقة كي تبلغ المعنى!
أرأيت منح الله لك كيف ينزلها بقدر، إن كل النعم تسكن في أماكنها في توقيت فذ.
أعظم ما نزل على الدنيا الوحي، لقد نجمّه الله على نبيه عليه السلام، ولم ينزل دفعة واحدة، لقد بكى الصحابة على النبي عليه السلام حين مات لأنهم فقدوه، وأيضا بكوا كون الوحي قد انقطع عن العالم!
الوحي الذي كرس حكمة العطاء على خير الخلق، لقد منحه الله كل شيء بقدر رغم قدرته “ألم يجدك يتيما فأوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى”.
كيف هي الحياة عند من ولد غنيا، ذلك الذي في فمه ملعقة من ذهب، وكيف هي بالنسبة لذلك الذي كد في الحياة ومنحه الله ما يريد بحسب البذل والجهد.
لنفترض أن عالما في الذرة نال نوبل وهو في العشرين مثلا، هل يتساوى الأمر مع ذلك الذي نالها وختم بها جهده، وبقي من عمره ما يستوعب الفرح!
دع الأشياء تأتي في توقيتها. انظر في الجهد المبذول الذي دفعه الناس لينالوا ما يريدونه، لهذا لا يتضجر من عدم بلوغ الأماني إلا جاهل، ولا يحسد الناس على المنح والعطايا التي وقعت لهم إلا معدوم الفطنة.
والغرق في المادة ثمنه فادح، لأنه يحجب النور، ويقبض القلب إلا من رحم الله، سئل ابن المبارك هل الرجل يستطيع أن يجمع بين الزهد والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، فرد نعم إن كانت في يده ولم تكن في قلبه!
لقد كان ابن زيدون وزيرا ولديه القصور والجواري، لكنه لم يشبع، لقد “كفشته” جاريته وهو يتلصص على الصبايا وهن يغتسلن في العيون، وعندما لامته قال مقولته الشهيرة: “كل مبذول مملول، ولذة العيش اختلاس” لن تشبع لو حزت كل الدنيا إن لم ترزق القناعة، بل ربما تذهب إلى مواطن سيئة لم تتوقع في يوم من الأيام أن تحضر فيها، وقد يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك نحو الغياب ومحاولة الخروج من العالم بالمخدرات وإدمان اللذة!
لكن ماذا عن الاختلاسات الجميلة، لقاء سريع مع صديق، سفرة لكسر الروتين، فنجان قهوة لحظة صفاء، قراءة كتاب، أجرة على جهد قمت به، ومضات الحياة هنا وهناك هي ما يجعل للعيش معنى وقيمة، كن مختلسا للجمال والحب، والأنس، تلك الأشياء التي لا تُشترى هي ما يؤثث حياتك.
واعلم أن أعظم أحلامك هي تلك التي تحاول أن تقف على رؤوس أصابعك لتنالها ولا يحدث، فتتقلص قامتك وتصفق، وأنت تبتسم، عندنا في الديرة نرمي “الحراج” بالبنادق وأحيانا يحدث أن يكون الخطأ أجمل من الصواب، لقد حدث كل شيء ونجى الهدف بأعجوبة فنقول: “والله رمية أحسن من الصواب”!
عليك أن تحمد الله على أحلامك المعلقة والمؤجلة، لأن في عدم حدوثها خير ومعنى وحكمة.
ثم إنه لن تصفو الحياة دون حضور الإيمان والرضا، لهذا ماذا نقول لذلك الذي لم ينل حظه اليسير من الأحلام، ماذا نقول له إن لم يكن مؤمنا بـ “وللآخرة خير لك من الأولى”.
الحب، الأطفال، المال، الاستقرار، المنصب، التمكين، التكريم، مشاريعك وأحلامك الكبيرة والصغيرة، سوف تأتي لا تستعجل، لا تتحسر، لا تسخط، بالإيمان، والهدوء، والنوايا الحسنة ستحصل على ما تريد، وإن لم تأت تدخر، أو تذهب لمن يستحق، فلست أنت من يعيش على ظهر الكوكب، والناس عيال الله.
لقد كانت فكرة هذه التدوينة تطن بعد قراءة كتاب ماثيو بيري “أصدقاء وعشاق والشيء الرهيب” وبعد سماع حديث لبلال فضل يتحدث فيه عن ماذا فعل الله بإليزابيث غيلبرت؟
مساؤكم سعيد.
