صيرورة خاصة

كانت سنة أولى ثانوي أثقل وأصعب سنوات الدراسة على الإطلاق، وطبعا رسبت في تلك السنة، وقررت عدم إكمال الدراسة نهائيا، وكان المأزق في كيفية إقناع أمي وأبي بالأمر، رغم أن أغلب أقاربي من الشباب كانوا يكتبون في العسكرية بعد المتوسطة، حتى نصيغها في جملة سينمائية: “كانوا يذهبون أطفالا إلى معسكرات التجنيد” والحقيقة أنهم كبروا قبل ذلك.

في تلك الأيام حدثت تفجيرات الخبر، وكنت مترددا في تفجير موضوع ترك الدراسة بين يدي الأسرة! كنت في حيرة من أمري، لذا كنت أقضي معظم الوقت في القراءة، ومشاهدة الأفلام، والجلوس مع شباب الحارة في “الكازينو”!

ونحن في القهوة طلب مني أحد الشباب أن أرافقه في طلعة الخميس -يوم كان الخميس إجازة- للذهاب مع شباب تحفيظ الحارة، رفضت بحجة أني غير ملتحق بحلقة التحفيظ، حاول إقناعي بأن الهدف تزجية الوقت، والشباب ليسوا غرباء، وأننا في النهاية لن نصبح مطاوعة بسبب تعلقنا بالجراك!

أخبرته أن الموضوع محرج بعض الشيء، وحتى يحرضني أخبرني أنهم يتناقشون في الكتب والدين، وهي مواضيع تهمني، رفضت أيضا، ثم ختم كلامه: جرب يا أخي!

وبالفعل ذهبنا للطلعة والتحقت بالتحفيظ، ثم حدثت أمور مفصلية بعد ذلك، الأول منها؛ استقبل قرار ترك الدراسة بالاستهجان، فلا يليق بشخص سيحفظ القرآن أن يترك دراسته، وذكروا لي بيقين أن حفظ كتاب الله ييسر كل عسير. الأمر الثاني: تركت قضم أظافري، وحلّت الطمأنينة، لأني أصبحت أهتم بالروحانيات، الصلاة؛ النوافل، وقيام الليل، والصيام، الاثنين والخميس، والأيام البيض، والتخفف من المباحات، لو سئلت عن الصحة الروحية والجسدية في حياتي لكانت تلك الأيام، الأمر الثالث: وذلك بعد تجاوزي سنة أولى ثانوي، أني رأيت طفلي في المنام، وتعلّقت به، فقررت أن أتزوج من لحظتها، وتقدمت لفتاة وأنا لا زلت أدرس في الصف الثاني ثانوي!

الأمر الرابع: وحدث ذلك في آخر سنة في الثانوية أني تعرفت على خالد القرشي صديق العمر والتحولات، وأيقونة الصداقة الحقيقية، كان يأخذني في سيارته الكرسيدا الحمراء نفرفر في جدة ثم نذهب بعد ذلك لتناول العشاء في بيك الشرفية تحديدا. تخرجنا من الثانوية ثم حضر الحلم أن أكون معلما للرسم، وتقدمت لكلية المعلمين ولم أقبل والتفاصيل ذكرتها في تدوينة سابقة بعنوان: قدر الحلم والمهنة والكتابة.

كان خالد حزينا لأنني لم أقبل، وكان يواسيني كثيرا، وعندما كان يستلم مكافأة الكلية يقسمها بيني وبينه!

قررت إكمال دراستي انتسابا في جامعة الملك عبدالعزيز، ثم بحثت عن وظيفة لأن رغبة الأبوة لا زالت مشتعلة منذ تلك الرؤيا، وبالفعل توظفت على بند الأجور براتب ٢٠٢٤ ريال، وتزوجت من الفتاة التي خطبتها وأنا في الصف الثاني ثانوي، وكان والدي مصدوما من جرأتي، وذكر لي أن طريقتي فيها بعض الطيش، وكان أحد الأصدقاء يعمل في الأوقاف عرف بأمري، ودلني على مسجد به منزل صغير أسكنه إلى أن تتحسن ظروفي، انشغلت بحياتي، والتزامي بالمسجد، سألت عن خالد فأخبرني شقيقه أنه ذهب لأبها لإكمال دراسته هناك، لم يكن لدينا هواتف محمولة وقتها، كان قلة من الناس من يملك هاتفا محمولا.

مرت السنة الأولى من الزواج ولم يأت الطفل، وفي أحد الأيام وأنا خارج من الحارة بعد أن زرت أهلي، مررت بمنزل خالد للسؤال عنه ولم أجده، فنزلت زوجتي للسلام على أمه، وعادت بخبر أن صديقي خالد في معتقل غوانتنامو!

كان خبرا صادما، ذهبت للإنترنت وبدأت في البحث، لقد ذهب قبل أحداث ١١ سبتمبر إلى أفغانستان ثم قبض عليه في مزار شريف، بعد ذلك تم ترحيله إلى غوانتنامو، ثم علمت أنه من الممكن مراسلته عبر الصليب الأحمر، كتبت رسالة مطولة وذهبت للبريد ورفض استلامها، ثم ذهبت لوزارة الداخلية، واستقبلني مسؤول هناك، واستلم رسالتي، ووعدني أنه سوف يحرص على إرسالها.

كانت الكتابة حينها الملجأ من الفاجعة، فكتبت عددا من الرسائل والنصوص لأنها كانت تبعث الطمأنينة في نفسي، وبعد شهور خرج خالد من معتقل أشعة إكس بغوانتنامو إلى حاير الرياض، وزاره أهله وأقاربه، وهناك أخبرهم أن رسالة طاهر وصلت، وأن الرسائل كانت لا تستقبل إلا إذا كانت من أباء المعتقلين فقط، لقد كانت رسالة طاهر أول رسالة من صديق لصديقه في تاريخ المعتقل.

ثم علمنا أن خالد كان شاهدا على أحداث قلعة جانجي، وقد كان يدوّن لنا أحداث تلك الأيام وكنت أعيد صياغتها بأسلوبي، من هنا بدأت رواية “جانجي” بالتشكّل، فكانت مزيجا من التوثيق والمتخيل، بين السرد التقليدي، والتجريب، رواية كتبت بوعي بسيط وصدق كبير، واستقبلها القراء بحفاوة كبرى، ثم ترجمها الدكتور أبو بكر باقادر للإنجليزية، ولا زال بعض الأصدقاء حتى الآن يرونها أفضل ما كتبت، منهم الصديق عبد الرحمن مرشود، وإن كنت أختلف معه من الناحية الفنية.

بعدها أصدرت عددا من الروايات والمجموعات القصصية، وتثبت على وظيفة حكومية بعد أن كنت على البند، وخرج خالد من السجن بعد ثلاث سنوات، وكنت أنتظر خلال ذلك الطفل الذي رأيته في المنام لكنه لم يأتِ، ثم رأيتني وكأني فوق محيط متجمد، وأنا جالس بصنارتي أواجه العواصف الثلجية وأنتظر الصيد، كانت لي محاولات فاشلة، ثم نجحت في صيد سمكة كبيرة، ثم حاولت مرة أخرى وتمكنت من صيد مجموعة من الأسماك المتنوعة، كنت في الرياض حينها لزيارة معرض الكتاب، فقابلت شخصا يفسر الرؤى وسردت الرؤيا عليه، فأخبرني أن ابني البكر سيكون ذكرا، ثم سيأتي الأولاد من بعده ذُكرانا وإناثا، وبالفعل حضر أحمد بعد عشر سنوات من الزواج، وخمسة عشر سنة من الرؤيا الأولى، وجاء إخوته من بعده، وهكذا إذا أعطى الله أدهش.

حياتك؛ تفاصيل، وخطى، ومراحل، مترابطة ببعضها بشكل وثيق وعجيب، وأنت تتغير، وتتشكل، وفق هذه الصيرورة لتكون أنت. 

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 122