بداية الألفية كانت لدي رغبة في مجرد فعل الكتابة، لا يهم الموضوع، لا تهم اللغة، طالما أن “منتجا” سوف يرى النور قريبا!
بعد صدور أربعة أعمال لي بدأت أستوعب أن الأمر ليس بهذه الطريقة، خاصة عندما وجدت أن العمل الرابع مجرد عوالم صاخبة، وصوت مرتفع، واحتجاج في غير محله، وأسلوب مراهق في الكتابة، ولغة تشبه الشتيمة!
بعد عشر سنوات شرعت في كتابة “أطفال السبيل” لغة قريبة من الشعر، قليل من التراث، هناك رؤية سردية ما تتشكل، في محاولة لتحريك البيادق لعلي أتقدم بشكل أو آخر، بدا الأمر فيه نوع من التمكن، وكنت التجربة مرضية لي.
وقت كتابتي للفيومي، شعرت بتفوق على مستوى الكتابة بشكلها الجمالي، جربت التاريخ، فلم أنسجم معه، كانت هناك محاولات كر وفر في الكتابة، المضمون واللغة يتفقان، ويفترقان أحيانا، أستدرج اللغة، جمل متماسكة، لغة منسجمة مع المضمون، فيها تذاكي، واقتناص، كانت هذه محاولاتي في الاقتراب من الأسلوب الذي أريد، واللغة التي تشبهني، لكن هناك ما يحول دون ذلك.
ثم شعرت أن الحارة أقرب للغة التي أرغب في الاقتراب منها، فكتبت “عالم منصور” ومثل دوزنة الآلة الموسيقية في “أطفال السبيل”، وضبط نيشان البندقية في “الفيومي”، اقتربت قليلا قليلا مما أريد، وكنت أقول بصوت خافت، أشعر أني اقتربت، عندها كتبت “آخر حقول التبغ” – بعد أكثر من عقدين من أول محاولة سردية- وبعد الانتهاء تنفست الصعداء وقلت: الآن أستطيع أن أقول أنني وجدت ما أبحث عنها، وصدرت “آخر حقول التبغ” -ربما لا يشكل هذا العمل للقارئ أهمية كبرى، وربما ينحاز لعمل لي كتب بشكل متواضع قبل سنوات- لكن هذا العمل كان بالنسبة لي هو لحظة العثور عن الأسلوب الخاص، واللغة التي أريد، تلك اللغة التي كانت تتوارى وهي بالقرب، وكان من المفترض أن أنطلق في الشروع في رواية أخرى لكن المفارقة الكبرى أنني توقفت عن الكتابة – أقصد هنا كتابة الرواية- لقد صدرت “آخر حقول التبغ” ٢٠٢٠م وقتها كان بعض الأصدقاء يشير بأن لفظ “آخر” في العنوان يوحي بنية مضمرة تجاه الكتابة، وصدقا هذا الأمر لم أفكر فيه وقتها، إلا أن لذة العثور على شيء ما لا يتعلق بالمحسوس، قد ينعكس على ممارسة حسية استمرت معي لزمن طويل، أعترف أنني الآن أفتقد للأيام التي كنت أنام فيها مبكرا كي أستيقظ مع “العصافير والنباتات” لأمارس الكتابة ساعات الصباح الأولى، أفتقد للذة الكتابة المستمرة لساعات تمتد للظهيرة، أفتقد للمشاعر المخاتلة التي تأتي معها، أفتقد للحظة الانعتاق عن الواقع وقت ذاك الفعل، أفتقد للإنجاز المتمثل في الكلمات المسكوبة على البياض، أفتقد للحظة الثراء وقت المغيب وأنا متجه للبيت، وأنا أشعر بالتعب اللذيذ بسبب الكتابة.
رغم كل هذا الفقد الذي يشعر به كل من قارف الكتابة، إلا أن لحظة العثور الأسلوب في الكتابة هو لحظة الشبع التي لا تدري متى يفارقك لتشتهي الكتابة مرة أخرى.
التوقف ليس بالأمر الصحي في الكتابة، لأنها مهارة بحاجة للصقل الدائم، والجريان وهو حياة الكتابة، لكني وجدت نفسي في حالة شبع، وقناعة، ثم أن الكتابة تأتي.
في النهاية الكتّاب هم على فئات، فئة لم يفتح لها، لكنها استمرت في الكتابة، وهؤلاء تحترم فيهم جلدهم، وحبهم للكتابة، وهم كثر بالمناسبة.
وفئة تتطور وتندهش من تنقلهم من طور إلى طور، من الكتابة المتواضعة إلى الأسلوب المتفرد الناضج الخاص بهم، وهم فئة قليلة ونادرة وأتذكر منهم إبراهيم أصلان، فمن قرأ “بحيرة المساء” التي كتبها في الستينيات الميلادية سوف يصدم من الكتابة البديعة الذي سوف يقف عليها في “حكايات من فضل الله عثمان” لقد استمرت الرحلة أكثر من أربعين عاما ليصل إلى أسلوبه الخاص.
والفئة الثالثة كتبت بنضج منذ البداية ولم تزيدهم التجربة سوى جمالا فوق الجمال الذي منحهم الله إياه، منهم نجيب محفوظ، وبهاء طاهر، ويوسف إدريس، وغيرهم.
الحديث عن الكتابة لا تنقضي عجائبه، وكنت أرغب في التعليق حول كلام للمترجم ثائر ديب يتعلق بهذا الأمر في مقدمته لكتاب “التزامن” لكني أكتفي بهذا القدر من الكتابة.