ساحة “دو تيرتر” خلف كنيسة القلب الأقدس في باريس، هي معرض تشكيلي حي يتجمع فيه الكثير من الفنانين التشكيلين لعرض لوحاتهم فيه، وأيضا لرسم الزوار مقابل بعض المال.
قابلت هناك بعض الرسامين العرب، يعرضون لوحاتهم البديعة، وهم ليسوا مجرد هواة، بل يتمتعون بأسلوب فني لا يخفى على أي شخص لديه بعض الخلفية عن الفن.
الرسامون العرب هؤلاء ببساطة لم يجدوا اهتماما في بلدانهم فذهبوا إلى تلك الساحة فكما أن زامر الحي لا يطرب فكذلك رسّام الحي.
وهذا يجعلنا نعيد النظر في هذه الإشكالية القديمة، والتي عانى منها الأنبياء والفلاسفة، والشعراء.
لهذا قيل لا كرامة لنبي في قومه، ونعت الفلاسفة بالجنون وقتلوا، وتجرعوا السم، وتبعثر الصعاليك في الأرض تطاردهم القبائل، وتبارك سفح دمائهم، حتى استأنسوا بوحوش الفيافي، حتى أنشد الشنفرى “وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى معتزل”.
إذا كنت مخترعا أو فنانا، أو متميزا، أو أتيت بشيء فريد لم يأت به أحد من قبل، فلا تستغرب النكران الذي قد يصيبك. لا تستغرب مصادرة إبداعك من أقرب الناس إليك ربما، هكذا تسير الأمور، نعم قد يختلف الأمر مع المحظوظ لكن الأغلب سوف يمر بنفس الطريق الذي عُبد منذ آلاف السنين لهولاء.
في مجال العمل، الخواجة سيكون له امتياز أكثر منك، صاحب العلاقات سيكون له الحظوة أكثر ممن يملك القدرات والخبرات والأدوات.
في الأدب، الرواية المترجمة سوف يتم اختيارها، وستبقى الرواية العربية الرائعة في المستودعات يعلوها الغبار.
قبل سنوات ترجم علي الشدوي كتاب” العود الأبدي” لبورخيس، وهو عبارة عن قصص تركها بورخيس بعد موته، ولم تنشر من قبل، لقد استقبل القراء نصوص بورخيس باحتفاء كبير، ولقد وقفت على مشاعر بعضهم أثناء القراءة ليكتشف القارئ أن الترجمة لم تكن سوى حيلة، وأن القصص هي للمترجم وليست لبورخيس، ذات الحيلة التي كان يفعلها بورخيس من قبل، ليختلف انطباع القارئ مباشر بمجرد أن عرف الحيلة!
أيضا صاحب بودكاست ذكر مقوله ليوسف إدريس “أن تؤلف كتابا أن يقتنيه غريب في مدينة غريبة أن يقرأه ليلا أن يختلج قلبه لسطر يشبه حياته ذلك هو مجد الكتابة.” أخبرت صاحب البودكاست أنها في الحقيقة لكاتب سعودي اسمه عبد العزيز البرتاوي، فذكر أنه سوف ينوّه عن ذلك في البودكاست القادم لكنه لم يفعل، فمقولة بتلك الجمال ربما تكون كثيرة على كاتب سعودي!
الأمثلة كثيرة جدا، وتتحقق على مستوى أضيق كالعائلة، فقد يسألك ابنك أو أختك التي لا تقرأ لك عن كاتب تراه لا يكتب بشكل جيد فتذهب للمكتبة بنفسك لشراء كتبه.
هو شعور ينتاب كل كاتب وفنان على مدى العصور، وإذا ذهبنا بضع كيلو مترات عن ساحة تيرتر، سنجد بلدة فرنسية تدعى أوفير سور واز التي رسم فيها الفنان الهولندي فان جوخ في آخر حياته، الفنان الذي لم يبع في حياته سوى لوحة واحدة، وبعد عشر سنوات من وفاته تسافر كل لوحاته لجميع العواصم التي تحتفي بالفن.
في النهاية أنت فنان معني بالدرجة الأولى بفعل الفن، لكن عليك أن تتذكر دائما أن الأثر ليس بيدك.