كنت أتابع السينما في وقت مبكر جدا، وقد ذكرت ذلك في تدوينة سابقة بعنوان: أول فيلم شفته؟ ما أريد قوله أن روبرت دينيرو كان منعطفا في مشاهدتي بعد أن أدمنت أفلام الحركة في مراهقتي، وهو من دفعني فيما بعد لمعرفة الرجل الذي كان يقف خلف الكاميرا وهو يصوره، أتذكر المشهد الذي أدهشني لأقترب أكثر من عوالمه، كان المشهد في فيلم الشوارع القذرة الذي أخرجه عام 73 المضاربة التي شاهدتها في الفيلم تشبه المضاربة التي تحدث في الحارة، فوضى وعبث وتوقف وعودة مرة أخرى، من المجنون الذي يقف خلف الكاميرا.
نشقح شويه، الفنان الحقيقي هو الذي يجعل ثقافته خلف النص وليس أمامه، لا تبرز عضلاتك الثقافية لنا في المشهد أو النص، دع مخزونك الثقافي خلف ذلك، النص أو المشهد سوف يخبرنا بأنك فنان ومثقف والله العظيم، دخيلك لا تخبرنا أنك تفهم في الموسيقى أو الفن التشكيلي، أو علم الفلك، وتجي تتفسوى علينا في النص، دع هذا المخزون في الخلف فهمت، كن مثل العم مارتي خلف الكاميرا!
طبعا فيلم سائق التاكسي أثر علي جدا، وكان حاضرا بقوة في جمجمتي أثناء كتابة روايتي أطفال السبيل، تارفيس بيكل هذا الملاك الثائر كما يصفه مارتن سكورسيزي والذي لديه رغبة في تنظيف المدينة من القذارة، ترن كلماته في أذني في بداية الفيلم عندما ذكر أنه ينتظر المطر ليغسل المدينة من السوء!
سيناريو سائق التاكسي كتبه بول شريدر في أسبوعين لقد كتب عن تجربته الشخصية هذا واحد، العم مارتي قرأ السيناريو وشعر أنه صفحة من الإنجيل هذا اثنين، دينيرو مشغول بالجزء الثاني من فيلم العراب وقرأ السيناريو وقال: أمثل دون مقابل، هذا ثلاثة!
نشقح كمان، عزيزي الكاتب العمل الجيد يفرض نفسه، غرورك بنصك المتهالك لا يجعلك تنصب العداء للعالم لأن أحدا لم يقبله، عندما تعرض نصا على ناشر ما ويطلبك نقودا من أجل نشره هذا يعني أن نصك ضعيف -في الغالب- وصدقني هو من سيدفع لك إذا وقف على نص رائع، العمل الجيد يفرض نفسه، لا تلطم من أجل محاولاتك بائسة، اذهب وتعلم واقرأ كثيرا واكتب كثيرا وداقش في الحياة كثيرا، وأرجوك لا تزعج أمنا!
العم مارتي تركبه بقعاء بعد النجاحات العالية ليسقط بعد ذلك ويدخل في الإدمان، يعرض عليه دينيرو سيرة الملاكم جيك لاموتا، ويرد عليه: انت خبل، ما أعرف في الملاكمة شيء، والرياضة لا تهمني!
بعد كم يوم العم مارتي يأخذ جرعة زائدة، ويذهب إلى جهنم، لكن الله يمنحه فرصة أخرى، وهو في المستشفى يذهب له دينيرو كعادة الايطاليين بسيرة لاموتا ويقول: عليّ الطلاق لتخرج من حالة الخرا اللي انت فيها، وتخرج هذا الفيلم.
يقرأ العم مارتي السيرة، ويتفاجأ ليكتشف أنها ليست عن الرياضة بل عن أشياء أعمق، ويخرج فيلم “الثوار الهائج”.
في عام 1990 لم أستوعب فيلم “رفقة طيبة” لا أدري لماذا؟ تركته وشاهدته بعد سنوات، ثم شاهدته مرات لا تحصى، دينيرو، جو باشي، والعم مارتي، هذا الثلاثي المبهج الذي استمر حضوره إلى “ايرشمان” الذي لم أمل أثناء مشاهدته التي امتدت لأربع ساعات، والسبب الألفة ببساطة شديدة!
صدقا رغم ما قدمه دي كابريو للعم مارتي إلا أنني لم أستسغ حضوره في أفلامه حتى في عصابات نيويورك، نعم حتى في حضوره الأخير مع دينيرو، وجه دي كابيرو ينسجم مع أدائه في فيلمه الرائع “من أغضب غيلبريت غريب” وكمان فيلم “غاتسبي العظيم” هو مش دانيال دي لويس ولا كريستيان بل.
ما المدهش في أعمال مارتن سكوسيزي، المدهش أنه هناك هاجس في داخله له علاقة بالثنائيات الكبرى؛ الوجود والعدم، الإيمان والكفر، الخير والشر، والملائكة والشياطين. هذه الثنائية تجدها لدى مارتن سكوسيزي الذي كان يرغب في وقت من الأوقات أن يصبح قسيسا، طبعا يظهر هذا جليا في فيلمه “الصمت” وإن كانت كل أفلامه قائمة على الهاجس الكبير الذي بداخله، العم مارتي أوعز الفضل لرجل ساهم في تغيير حياته -وذلك في الوثائقي الذي ظهر له مؤخرا- الرجل الذي وجهه للكتب والفن والحياة وهو قسيس حارتهم فرانك برنسيبي، هذا القسيس كان مثقفا وكرسوعا أيضا، فهو لا يكتفي بنشر الوعي لدى شباب الحتة بل أيضا يدخل في مضاربات مع عيال الحارة ويرفّع في خصومه حتى ولو كانوا عصبة، هذا الرجل ترك أثره على مارتن سكوسيزي فأظهر لنا أحد عباقرة الفن.
عندما سئل العم مارتي في الوثائقي: هل أنت متدين؟ رد: نعم أعتقد ذلك.
نشقح شوية، عزيزي المشتغل بالفن، ترى الموضوع ليس له علاقة بالحرية المطلقة، والالحاد، والبعد عن الدين، وتصوراتك المضروبة عن التحضر، الفن رؤية عميقة ومعقدة وإيمان كثيف، كلما شاهدتُ عملا فنينا عظيما، أو زرت متحفا أتذكر دائما مقولة الزعيم علي عزت بيقوفيتش: “الفن ابن الدين”.
الكتب تلعب دورا كبيرا في مسيرة سكورسيزي، أغلب أفلامه مقتبس من روايات وسير، عندما سئل عن الجمل والأسئلة المكررة أثناء الحوار في أفلامه ذكر أنه تأثر بأسلوب صامويل بيكيت!
شقحة أخيرة، أحبابنا في الوسط السينمائي شوية قراءة ومعرفة بالله، لا نريد أن نرى أخطاء معرفية فادحة، فلا بد أن نعرف متى عرفنا الخبز الأبيض، وما هو مدى البنادق التي صنعت بداية القرن العشرين، وما الفرق بين الخروف والتيس، آسف والله بس شوية تركيز وقراءة ومراجعة كمان أرجوكم!
في النهاية لك أن تتخيل عزيزي أن العم مارتي مكث أكثر من أربعين سنة حتى يأخذ الأوسكار، خلال أربعة عقود لم يتوقف أبدا عن الفن، وعندما سئل ذات مرة عن الأوسكار، قال: لم تعد تهمني، هوليود مهتمة بشباك التذاكر، والأوسكار، أنا أهتم بقيمة العمل.
لهذا عندما أعلن سيبلبرغ وكوبولا عن فوزه بالأوسكار بعد أكثر من أربعين سنة، مد كلتا يديه، وكأنه يقول: بعد ايش!، حتى عندما سئل بعد الحفل عن الجائزة قال: أحمد الله أنني لم أنال هذه الجائزة في وقت مبكر، لأني أصبحت قويا دونها! ذولا ناس أكبر من الجوائز يا أخي!
في النهاية هؤلاء أناس كبرنا معهم، ألفناهم، وعرفنا أعمالهم خلال عقود ومراحل عمرية متفاوتة، هم كل ما تبقى لنا في عصر السيولة هذا الذي لا يكف عن إخراج أعمال لمّاعة وكثيرة لكن دون روح ونبض.
