الرحلة الثالثة

قبل ثلاث سنوات اقترحت على أقاربي أن نقوم برحلة سنوية خاصة بشباب العائلة، وبالفعل ذهبوا في الرحلة الأولى إلى تركيا، والعام الماضي ذهبوا إلى إيطاليا وصاحب الاقتراح لم يكن معهم لا في الأولى ولا في الثانية، هذا العام أصروا عليّ أن أكون معهم، في الوقت الذي لم تكن هناك دولة مقصودة بعينها، المدينة التي أجمعنا عليها برشلونة، لكن هل ننطلق إليها من طنجة أم من روما، ثم اتفقنا أن تكون من روما.

في منتصف أكتوبر انطلقنا وكان عددنا خمسة بخلاف الرحلة الأولى التي وصل العدد فيها إلى ثمانية، أنا أفضّل للسفر إلى أوروبا وغيرها أن يكون العدد أربعة أشخاص كحد أقصى، لأن العدد لو زاد سوف يترتب على ذلك مشقة في أشياء كثيرة مثل السكن والنقل، وبالتالي ستكون التكاليف مضاعفة، لذا أرى أن أفضل عدد لسفر أي مجموعة هو من ثلاثة إلى أربعة، لكن كنا خمسة وسادسنا الخاطر الطيب.

 انطلقنا من جدة ثلاثة من أبناء الخال، واثنين من أبناء الخالات، أخذنا ابن خالي الصغير بعد أن وعدناه بقميص برشلوني أصلي من المتجر إذا أوصلنا للمطار، شرط أن يستقبلنا من المطار وقت العودة ورضي.

مكثنا في روما أربعة أيام وعندما قرر أن نذهب لبرشلونة لم نجد رحلة، فكان لابد من وجهة أخرى فبحثنا فاقترح أحدهم أن ننطلق إلى المجر!

نظروا إلي بحكم السن وبعد أن نصبّوني أميرا وإماما، رددت في نفسي “ليلتكم سودا ياولاد” أنا لا أعرف من هنقاريا سوى الجبنة البيضاء وفيلم “الحازوقة” الفيلم الذي يحكي قصة عجوز يعاني من الحازوقة في قرية بسيطة، غير ذلك لا أعرف عن هنقاريا شيئا، بالفعل حجزنا تذاكر على بودابيست ومكثنا هناك ثلاث ليالي، مدينة جميلة على بيوتها مسحة اشتراكية، والشقة التي أخذناها من أجمل الشقق التي سكنها في الرحلة، لكن المدينة كانت باردة تصل درجة الحرارة فيها إلى الواحدة أحيانا، لكن المعاطف قامت بالواجب، ثم أخذنا بعد ذلك تذاكر إلى جزيرة بالما، جزيرة أسبانية جميلة، مشهدها من فوق من أجمل المشاهد الذي شاهدتها بالطائرة، مرتفعة عن سطح البحر بأمتار، كأنها جبل مقصوص القمة، فوقها جبال وحقول في غاية الجمال، وهناك مزارع وفلل موزعة في الجزيرة، والمدينة في خاصرتها اليسرى المقابلة لبرشلونة.

قررنا المكوث في برشلونة وتنقاشنا كثيرا في مسألة اختيار وجهة أخرى، الذهاب لمدريد أم غرناطة، أم طنجة أم مراكش، في النهاية مكثنا في برشلونة، التي أختصرها في ثلاثة أشياء أو أربعة لمن يحب النادي العريق، برشلونة عندي هي الفلامنكو، ومعرض بيكاسو، ومطعم أسادور، وكل واحد منها بحاجة إلى تدوينة خاصة.

في برشلونة وجدت مشاعر غريبة وأنا أرى الوفرة، آلاف المطاعم والمقاهي، والحانات، والمكتبات، والعروض، برشلونة مترعة بالجمال، والصبا، والألفة، ذهبت حتى للحراج، وكان مكانا هائلا، وجدت فيه كل الأشياء التي ظننت أنها قد اندثرت من الوجود، وفكرت في الوفرة، ماذا تعني لنا. ما هي المآلات، ماذا يعني أن تكتنز الأشياء، ماذا يعني أن تحصل على كل شيء، ماذا يعني أن تحصل على تلك الأشياء التي لم تتوقع أن تجدها يوما.

مؤخرا تركت بعض الأشياء الرديئة لأن الله أنعم علي بما هو أفضل، طيب في حال حزت على أفضل الخيارات في حياتك، في المطعم، والمشرب والملبس، والرفقة، والسفر، هذه الأسئلة كانت مثار نقاشنا في آخر ليلة لنا في برشلونة، فنطق أحدهم الوفرة من المنبغي أن توصلنا للزهد.

وهذا هو خلاصة التوجيه الرباني، والمنهج الإلهي “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض” يقول الله “ولا تنس نصيبك” مما يشير إلى صغر الشيء وقلته والذي من الممكن نسيانه أحيانا!

رفاقي في سفرتي هذه من أقاربي من أبناء عائلتي، أنا كبيرهم ولست بخيرهم طبعا، يعتنون بي أكثر مما أعتني بهم، ويرشدوني أكثر مما أرشدهم، وأطمع أن يحبوني أكثر مما أحبهم.

نعمة كبيرة أن تجد السلوى والفرح، وتقف على معاني الجمال والكشف مع من تشترك معهم في الدم والجينات والأفكار المتفاوتة والاهتمامات المتناقضة، والعبث، والمشاكسة، والحب، والشفافية، والقرب أثناء الأكل، والنوم، والسير في مدن الله، وهذه نعمة عظيمة تستوجب الشكر. 

أكتب الآن هذه التدوينة وأنا على السرير أشاهد روما من فوق وأمامي الكولوسيوم، يأتيني الفطور على السرير من يد قريبي، البيض والجبن ومربى الحماط، مع كوب الشاي فأخبره أن أنني أكتب عن الرحلة.

فأسمع طاهر الآخر وهو في الشرفة يقول: لا تخبر الناس بكل شيء!

سوف نخرج الآن لوداع المدينة، مدينة العمارة الهائلة، والبيتزا والفيراري، والتراميسو، والأشياء الجميلة الأخرى.

صباحكم سعيد.

شارك
طاهر الزهراني
طاهر الزهراني

طاهر الزهراني، كاتب وروائي.

المقالات: 111