قبل أكثر من عشرين سنة وفي أول زيارة لي لنادي جدة الأدبي التقيت بالدكتور عبدالفتاح أبو مدين، ثم تعرفت سريعا على أغلب من في النادي الأدبي، واقتربت من أبرز الأسماء في الساحة الثقافية، ومن قبل كنت قارئا لهم كعبده خال ومحمود تراوري وحسن النعمي وأبو بكر باقادر وعلي الشدوي والعديد من الأسماء، الشخص الوحيد الذي لم أستطع الاقتراب منه هو سعيد السريحي، فقط كان لي معه حديث قصير بعد صدور كتابه “غواية الاسم” كان فيه الدكتور سعيد في منتهى اللطف، لماذا لم أقترب منه؛ ربما يعود ذلك لأسباب منها سطوة سعيد، ومدى أثره ليس على قلة بل على أجيال بأكملها، من ينكر أثر سعيد السريحي في جيل الثمانينات وما بعده، أثره على شعراء الحداثة، أثره على تجربة الثبيتي، أثره على كتاب القصة القصيرة، اقرأ أي قصة قصيرة كتبت في الثمانينات، ستجد صورة سعيد بشاربه الكث هناك، لا أبالغ لو قلت أنهم كانوا يكتبون تحت تأثير سعيد وإرضاء له!
الأمر الآخر هو من جيل يشبه ما سبقه، جيل عبد الكريم الجهيمان، وحمد الجاسر، وحمزة شحاته، وعزيز ضياء، جيل عتيد ومخضرم، فالمسافة بعيدة جدا.
وهناك أمر يتعلق بأبي لقد كان أبي يحب سعيد، يقرأ كتبه، ويتابع مقالاته في صحيفة عكاظ، لهذا كنت أشعر أنه صديق لأبي أكثر من كونه مثقف مشاع وبالإمكان أن أقترب منه.
لهذا ربما هو المثقف الوحيد في جدة الذي كانت بيني وبينه مسافة حالت دون سطوة سعيد وجاذبيته الهائلة.
عندما تشكلت وزارة الثقافة قبل أعوام، وعقد ملتقى الأدباء الأول في أبها، وجمعت الوزارة أغلب المثقفين من جميع أنحاء المملكة، وشاهد سعيد تلك التشكيلة من جميع الأطياف وخاصة من صغار السن الذين صعدوا معه خشبة المسرح، شعر أن الزمان لم يعد الزمان ولا المكان هو المكان، فخرج سعيد يتذمر من الصغار في حضرة الكبار، وهو كبير بلا شك.
من لا يندهش من حديث سعيد عندما يرقى منبر النادي الأدبي ويتحدث سحرا، يقف على المنبر الذي برد بسبب المداخلات السامجة، ويأتي سعيد يتحدث فتفغر الأفواه من بلاغته وجمال لغته، وطريقة حديثه، ووقع الراء في مقوله.
كيف هو المشهد والنادي والملتقى والمنبر دون حضور سعيد، كيف هي جدة، وأبحر والمقهى الذي يجالس فيه الصحب والذي لا يبعد عني سوى شارع فقط، تشرئب الجمال في الدوار المشهور وهي تنصت لحديث سعيد وهو يحادث الرفاق ويمج دخان سيجارته في الفضاء.
سعيد الذي لا تمر مناسبة إلا ويذكر ألمه المشهور بعد حرمانه الدكتوراة وهو أكبر من الدكتوراة ومن البحوث ومن التوصيات واللجان.
أمس سقط سعيد لأول مرة في حياته وهو الناهض دائما، رأسه لم يستوعب اللغة هذه المرة فنزف، ودخل غيبوبة الراحة، وسوف يعود بإذن الله، وأظن أنه لا يفرق معه، لأنه يجيد منادمة الموت، ويعرف كيف يتجلى في حضوره.
لم أكن أرغب في الكتابة بهذه الطريقة لأن لسعيد رفاقا وأصدقاء هم أولى بالحديث عنه، لكن كفاني من سعيد حضوره الباهي وحب أبي.
